ترك برس

نور الدين طوبتشو (1909-1975)، الفيلسوف التركي الأبرز في القرن الواحد والعشرين، والذي اشتهر بـ"فلسفة الحدث" القائمة على أخلاقيات الثورة. وعلى الرغم من اعتراف الكثيرين بذلك، لم ينل نور الدين الاحترام والاهتمام الذين استحقهما، بل بالرغم من حصوله على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون، مُنع من التدريس في الجامعات التركية بسبب الأفكار الإسلامية التي كان يحملها. وبعد وفاته، تم الاعتراف به كقمة السلم التعليمي الفلسفي، لقد كانت خسارةً كبيرةً للدولة أن تحرَم من تعليم طلابها على يديه.

وُلد نور الدين في السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1909، في إسطنبول. ترجع أصول عائلته من جهة أبيه إلى أرضروم، وهي مدينةٌ تاريخية تقع في الجانب الشرقي من تركيا. سُميت عائلته بـ"طوبتشو زادى"، أي ابن الجندي الذي يعمل في سلاح المدفعية في الجيش، نسبةً إلى جده الذي كان يقوم بذلك العمل عندما احتلت روسيا أرضروم، الولاية الأناضولية الشرقية. أما والده أحمد أفندي فقد عمل كبائعٍ للحبوب في أرضروم.

انتقل أحمد أفندي بعد ذلك إلى إسطنبول من أجل كسب العيش من خلال تجارة الأغنام، حيث كسب ما يكفي من المال لافتتاح خان أرضروم، وهو مبنىً تجاريّ في تهتاكالي، والذي أصبح في ما بعد مركز التجارة في إسطنبول. عندما ولد نور الدين كان ابنًا لعائلة ثرية، إلا أن وظيفة والده انهارت وتعرضت العائلة للإفلاس، الأمر الذي دفع والده لإنهاء تجارة الأغنام وفتح محلٍّ لبيع اللحوم.

وُلد نور الدين من زوجة أحمد أفندي الثانية، فاطمة هانم. وأثناء دراسته الثانوية، خسر نور الدين والده، فقرّر منذ ذلك الحين أن يكرّس حياته من أجل أمه وجدّته.

درس نور الدين على الدوام في مدارس النخبة، فقد بذلت عائلته أقصى جهدها لمنح ابنها فرصة نيل تعليمٍ جيد، يعينه في حياته التي لا يعرف أحدٌ ماذا قد تخبّىء له. وكان بالفعل طالبًا نجيبًا أحب القراءة والكتب، فقد قال زملاؤه في الدراسة إنه كان طالبًا عبقريًا لم يأخذ استراحةً قط من قراءة الكتب، كما لم يصنع العديد من الصداقات. صديقه سيرّي توزير قال عنه ذات مرة: "لم يكن نور الدين شخصًا اجتماعيًا على الإطلاق، وقد كنتُ أنا صديقه الوحيد في المدرسة الثانوية".

تقول الملاحظاتُ التي ذكرها الأشخاص الذين عاشوا معه الحياة المدرسية، إن نور الدين حينما كان طالبًا ثانويًّا، تأثر كثيرًا بالشاعر التركي الشهير محمد عاكف (1873-1936) صاحب نشيد الاستقلال التركي "استقلال مارشي".

رجلٌ ثوري، حارب من أجل مبادئه وأفكاره، أحب بلده على الرغم من الظلم الذي تعرض إليه، وعاد إليها بعد معاناةٍ طويلة مع الغربة التي أجبر عليها بسبب الحزن الذي أصابه لدى رؤيته الحال الذي وصلت إليه بلاده. كل تلك الصفات والأحداث التي حملتها حياة محمد عاكف، كانت كفيلةً بالتأثير في نور الدين، وجعلت منه شخصًا أقوى بحسب ما ذكر زملاؤه في الدراسة، ورفعت من مستوى الوازع الديني لديه، فأصبح يؤدي الصلوات خلف أستاذ الديانة، شرف الدين يالتكايا (1879-1947)، والذي كان له تأثيرٌ كبير في حياته أيضًا. ويعد شريف الدين أستاذًا في العلوم الدينية والرئيس الثاني لإدارة الشؤون الدينية في الجمهورية التركية.

بعد تخرجه من مدرسة إسطنبول الثانوية، تلقّى نور الدين منحةً من باريس، وذهب إليها لدراسة الفلسفة الغربية. وقد التقى فيها بعضًا من المثقفين اليمينيين الأتراك، منهم زياد الدين فخري فينديك أوغلو، ورمزي أوغور إريك الذي كان له أثرٌ في فكر نور الدين، خاصةً فيما يخص القومية التركية والفكر الأناضولي. كما كان لحسين أفني أولاش، السياسي الإسلامي الذي شارك في أول جمعية تركية وطنية أسست أثناء حرب الاستقلال، أثرٌ هامٌّ في تأسيس فكر نور الدين.

على الرغم من وجود هؤلاء المفكرين الأتراك الكثر الذين أثروا في نور الدين، إلا أن المفكر الذي كان له التأثير الأبرز عليه هو الفيلسوف الفرنسي موريس بلونديل (1861-1949)، الذي كان له عددٌ من الأعمال المؤثرة أبرزها "الحدث" والذي هدف لإقامة العلاقة الصحيحة بين المنطق الفلسفي المستقل والمسيحية.

التقى نور الدين بموريس لدى ذهابه إلى ليسي دي بوردو، وتشكل بينهما انسجامٌ لم يؤثر في نور الدين الشاب فحسب، وإنما في نور الدين الطالب المتحمس، الذي بدأ في التفكير حول فلسفة الحدث والثورة. ومن هنا، بإمكاننا القولُ إن موريس بلونديل هو المعلم الحقيقي للفيلسوف نور الدين طوبتشو.

ومع ذلك، لا يمكن أن نقول بأن "أخلاقيات الثورة" لنور الدين، هي نسخةٌ مبسطةٌ عن "فلسفة الحدث" لموريس. إن أخلاقيات الثورة شكلت الفهم الصوفي للإسلام، وأساس الحركة الوطنية المبنية على الفكر الأناضولي. وبالرغم من الاختلافات بينهما، لم ينتقد نور الدين موريس، بل وكان في بعض الأحيان مترجمًا له.

تخرج نور الدين من ليسي دي بوردو، وجامعة ستراسبورغ قبل الذهاب إلى جامعة السوربون وحصوله على درجة الدكتوراه منها سنة 1934، ليكون بذلك أول شخص تركي يحصل على شهادة الدكتوراه في تخصص الفلسفة من جامعة السوربون. حملت أطروحة الدكتوراه الخاصة به عنوان "المواءمة والثورة"، والتي لم تترجم للإنجليزية حتى سنة 1995 ونشرت تحت عنوان "أخلاقيات الثورة".

بعد عودته إلى تركيا، التقى نور الدين بعبد العزيز بكينى (1895-1952) زعيم الصوفية النقشبندية في تركيا، والذي كان له تأثيرٌ في تشكيل نور الدين لفلسفته وإنضاجها، بعد أن أصبح نور الدين تلميذ عبد العزيز في الصوفية.

درّس الفيلسوف الذي مُنع من التدريس في الجامعات التركية بالرغم من مستوى التعليم العالي الذي تلقّاه، في مدرسة غلطة سراي الثانوية، إلى أن تمّ نفيه إلى ثانوية أتاتورك في إزمير، ويُقال إنه قد نُفي بعد مشاجرةٍ مع مدير المدرسة.

توفي نور الدين سنة 1975 قبل أن يتم الاعتراف به ومنحه التقدير الذي استحقه، ولكنه على الأقل، عاش حياةً استحقت منه أن يعيشها.

ومؤخرًا في التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول/ أكتوبر من العام الجاري 2017، وبعد 42 عامًا من وفاته، أُعلِنَ نور الدين طوبتشو واحدًا من الأشخاص الذين سيتم تكريمهم بالجائزة الرئاسية الكبرى للثقافة والفنون عن سنة 2017، وسيقوم الرئيس التركي أردوغان بتكريم الفيلسوف المتوفّى وإعلان نيله الجائزة، على أمل أن يحيي ذكرى هذا العالم القدير، وأن يمنحه بعضًا من الاعتبار الذي خسره سابقًا، ولعل الطلاب الأتراك يستقون من علمه الذي لم يستطع تقديمه لهم حينما كان حيًّا، والذي لا زال يحيا بين طيّات الكتب يخبرنا عن صاحبه، الفيلسوف التركي نور الدين طوبتشو.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!