تامر بدوي - المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية

لم تُثمر زيارة نائب الرئيس الأمريكي "جو بايدن" لتركيا في الحادي والعشرين من نوفمبر عما كانت ترجوه الإدارة الأمريكية من انخراط تركي في التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). فالمتغيرات الإقليمية والدولية تجعل الولايات المتحدة في حاجة إلى تركيا كفاعل أمني لمجابهة التحديات التي باتت تواجهها في الجوار التركي الشرقي والغربي؛ حيث ترغب واشنطن في دمج أنقرة في التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" كخطوة رمزية تستهدف إعادة تفعيل الدور التركي في الاستراتيجيات الأمريكية على نطاق أوسع يتجاوز منطقة الشرق الأوسط إلى ساحات تنافس أخرى. فعلى عكس الاعتقاد السائد، لا تقتصر مسألة إدماج تركيا في التحالف على سوريا ومواجهة تنظيم "داعش" فقط.

فتركيا تلعب بموقعها الجيواستراتيجي دورًا حيويًّا في الاستراتيجيات الأمريكية انطلاقًا من قاعدة إنجرليك الجوية، وغيرها من القواعد في مراقبة التحركات العسكرية الروسية في البحر الأسود غربًا، وفي القوقاز، فضلا عن بحر قزوين شرقًا. 

ويسهم مفهوم "الدولة المتأرجحة عالميًّا" (Global Swing State) (1) في تفسير الإصرار الأمريكي على ضم تركيا للتحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" الذي يرجع في حقيقة الأمر إلى أسباب عابرة لإقليم الشرق الأوسط تجعل الولايات المتحدة في حاجة لضم أنقرة إلى التحالف الدولي. لذا، يبدو أن زيادة وتيرة التقارب الاقتصادي بين أنقرة وموسكو في الفترة الأخيرة مؤشر سلبي بالنسبة لواشنطن على الرغم من استمرار الخلاف بين الطرفين التركي والروسي حول القرم والملف السوري.

مصالح أمريكية من ضم تركيا للتحالف الدولي:

تنبع الرغبة الأمريكية من ضم تركيا إلى التحالف الدولي ضد تنظيم داعش من الأهمية الاستراتيجية الأمريكية لقاعدة "إنجرليك" الجوية التركية التي تلعب دورًا مهمًّا في الحرب الدولية التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة؛ لأن انطلاق الطائرات الأمريكية من القاعدة يُقلل من تكلفتها الاقتصادية، مقارنة بانطلاقها من قواعدها وحاملاتها في منطقة الخليج. لكن أنقرة تستمر في رفض استخدام واشنطن للقاعدة دون الموافقة على شروطها التي على رأسها فرض منطقة حظر جوي على مساحة معتبرة من الأراضي السورية. 

وبقدر ما ستساعد قاعدة "إنجرليك" الولايات المتحدة في هجماتها العسكرية على أراضٍ عراقية وسورية، فإنها ستساعد أيضًا في إطار تفاهم استراتيجي أوسع مع تركيا في تعزيز قدرات الردع الأمريكية في محيط منطقتين مهمتين بشكل خاص:

أولا- جنوب القوقاز وبحر قزوين: مع تولي بوتين رئاسة روسيا بدأت التحركات الروسية تثير حفيظة القوى الغربية عامة، والأمريكية خاصة، بدايةً من الدور الروسي في الأزمة الأوكرانية، والسعي الروسي لاستعادة نفوذها في الدول التي كانت تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي، ما يؤشر إلى انتقال الصراع بين روسيا والغرب وأمريكا إلى مناطق جديدة، لا سيما بعد أن أثمرت جهود روسيا الأخيرة (ومعها إيران) في الاتفاق مع الدول المُطلة على بحر قزوين على عدم إدخال قوى أجنبية (أي قوات حلف الناتو) إلى البحر، وذلك في آخر قمة لدول البحر في مدينة أسترخان الروسية بالتاسع والعشرين من سبتمبر من العام الجاري(2).

 كذلك، في الفترة الأخيرة بدأ يتم الحديث عن رغبة قيادات بأوسيتيا الجنوبية في الانضمام إلى إقليم أوسيتيا الشمالية الروسي، (فضلا عن منازعتها جورجيا عددًا من الأقاليم)، إلى جانب تقارير تشير إلى رغبة موسكو في انتزاع أبخازيا. 

وتأتي هذه التطورات في سياق غضب روسي من التقارب المستمر بين جورجيا وحلف الناتو. لذا تحتاج واشنطن إلى التركيز أكثر على تحركات روسيا بجنوب القوقاز من خلال تركيا، خاصةً بعد الأزمة الأوكرانية.

ثانيًا- البحر الأسود: بضم روسيا جزيرة القرم إليها، أصبحت المؤشرات تُشير إلى توسع النفوذ البحري لموسكو بمنطقة البحر الأسود،  والذي لا يشكل تحديًا لتركيا فقط، بل وللمنظومة العسكرية لحلف الناتو وعلى رأسها واشنطن. بالإضافة إلى ذلك،  يتيح التوسع البحري لروسيا مظلة دفاع جوي أوسع تستطيع من خلالها إعاقة مسارات تحرك مقاتلات الناتو عند مواجهتها لمناورات المقاتلات الروسية في محيط البحر

لهذه الاعتبارات الاستراتيجية،  في ظل تراجع النفوذ الأمريكي،  تشكل تركيا جيواستراتيجيًّا حجرَ الزاوية الذي لا تستطيع القوى الغربية كبح جماح روسيا إلا من خلاله، بتفاهم يضمن مصالح أنقرة بصورة معتبرة. ولهذا يرى جورج فريدمان وجوب دمج تركيا كمتحكم بالمضايق البحرية في نقطة ارتكاز جغرافية جديدة بالبحر الأسود تنطلق منها واشنطن وحلفاؤها لكبح جماح التحركات الروسية في أوكرانيا، وتنظيم داعش في سوريا والعراق، لكون البحر أقرب نقطة تربط بين المنطقتين(3).

موقع تركيا بين شرق المتوسط، البحر الأسود وجنوب القوقاز (المصدر: ستراتفور)

أسباب عدم انخراط تركيا في التحالف الدولي:

بالنسبة للنظام التركي، لا يمكن مجابهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) دون وضع استراتيجية طويلة المدى لمرحلة ما بعد القضاء على التنظيم تتضمن بُعدين رئيسيين: أولهما وجوب القضاء على المصدر المتسبب في الصعود الراديكالي المتمثل في نظام بشار الأسد. وثانيهما إيجاد بديل معتدل لتنظيم "داعش"، حيث إن القضاء على التنظيم دون إيجاد البديل المعتدل الذي يُمكن أن يملأ الفراغ يعني أن البديل سيكون توسعًا شيعيًّا مدعومًا من قبل إيران في المنطقة، وتمددًا من طرف أكراد سوريا المتحالفين مع إيران.

ولكن بحسب ما يرى مراقبون في تركيا، هناك بُعد آخر لعدم رغبة تركيا في الانخراط في التحالف الدولي ضد تنظيم داعش ودمج قاعدة إنجرليك في عمليات التحالف، ألا وهو عامل الخوف من الغضب الروسي. 

في عام 2010، نشر حلف شمال الأطلنطي (الناتو) رادار الإنذار المبكر للمنطقة الجنوبية من الدرع الصاروخي في قاعدة كورجيك التركية، وهو ما اعتبرته القيادة الروسية علامة على التوسع الغربي من خلال تركيا. في حين أن الولايات المتحدة أكدت أن الهدف من نشر منظومة الرادار هو حماية تركيا من الصواريخ الباليستية الإيرانية. فقد اعتبرت روسيا تحويل كورجيك من قبل حلف الناتو إلى مركز للمراقبة يهدف إلى التضييق على المحاولات الروسية للضغط على أذربيجان وجورجيا شرقًا(4).

لذا، قد ترى دوائر صنع القرار التركية في الوقت الحالي أن توسع دور الناتو على أراضيها (في ظل التوتر بين موسكو والغرب في أوكرانيا) في عمليات ضد تنظيم الدولة الإسلامية في شرق المتوسط سيثير غضب موسكو لأنها ستعتبرها دلالة على رغبة الغرب في تكثيف حضوره حول البحر الأسود، وبالقرب من أوكرانيا على خلفية الصراع المحتدم.

كما أن عدم قدرة الغرب وذراعه العسكري حلف الناتو على المناورة، وكبح جماح روسيا في أوكرانيا المطلة على البحر الأسود؛ يجعل تركيا في موقف ضعيف نسبيًّا عند الانخراط بقواتها في سوريا، فموقعها الجيواستراتيجي الذي يميزها كجسر للطاقة في المجال الأوراسي هو أيضًا مصدر ضعف لها في ظل الأوضاع الراهنة، ويفرض عليها أعباء.

في هذا السياق، هناك ما يُشير بوضوح إلى ميل كفة القوة البحرية في البحر الأسود بصورة متزايدة لصالح روسيا على حساب تركيا بعد أن كان هناك توازن عسكري بين الطرفين. ولأسباب سياسية داخلية، عطلت أنقرة في سبتمبر 2013 برنامجًا كبيرًا لتحديث واستبدال فرقاطاتها وطراداتها المعروف بـ(MİLGEM) في البحر الأسود. وفي المقابل تنوي موسكو وضع ست فرقاطات متطورة (متطورة عن نظيراتها التركية) في الخدمة بالبحر الأسود على مراحل متعددة حتى نهاية عام 2016(5). ومؤخرًا بدأت في وضع مقاتلات من طراز سوخوي-27 و30 في جزيرة القرم.

ومثلما تحتاج واشنطن للانخراط التركي،  تحتاج أنقرة واشنطن على خلفية التوسع الروسي في البحر الأسود. من المؤكد أن التقارب الجيو – اقتصادي على الصعيد الطاقة الذي تسير فيه تركيا مع روسيا يجعل صانع القرار التركي في حاجة إلى عدداً من الاستراتيجيات التي تعزز من موقع أنقرة في البحر الأسود، حتى وإن كان هذا التقارب يصنع حالة من اعتماد طاقة متبادل (Inter-dependency) بين الطرفين بلعب تركيا دول الوسيط والجسر الذي تحتاجه موسكو لأوروبا و في نفس الوقت احتياج أنقرة للغاز الروسي، إن كان هذا التقارب يميل لصالح روسيا أكثر.

تفضيلات أنقرة وواشنطن:

صحيح أن استخدام الغرب لقاعدة إنجرليك لا يتم إلا بدراسة وموافقة تركية على كل عملية على حدة، لكن توسع عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم داعش قد يُتيح ضمنيًّا للناتو والولايات المتحدة لاحقًا التوسع غربًا بحدوث تطورات تحتم ذلك التوسع. 

وفي مقابل المخاطر المحتملة من جانب روسيا، ربما تنظر تركيا إلى فرض منطقة الحظر الجوي والضربات ضد نظام الأسد كثمن ملائم أمام ما قد تتعرض له من طرف روسيا بسبب انخراطها الكامل، وإعادة تفعيل دور الناتو على أراضيها. وبذلك قد لا تقتصر عملية الإطاحة بالأسد فقط -بالرغم من محوريتها- على مسألة القضاء على جذور الإرهاب، بل قد تتعلق بثمن المخاطر الجيوسياسية المحتملة أيضًا.

على جانب آخر، ربما تجد واشنطن في توجيه ضربات إلى نظام الأسد، وفرض منطقة حظر جوي، خطرًا على مسار المفاوضات النووية مع إيران من جهة، ومكسبًا مباشرًا لتنظيم الدولة الإسلامية من جهة أخرى. فالطرفان الأمريكي والإيراني يرغبان في الانتهاء من المفاوضات باتفاق نووي وتسوية شاملة في المنطقة تتيح للطرفين تقسيم الأدوار (والتي قد تكون على حساب تركيا). 

سيناريوهات محتملة:

يُمكن إيجازًا وضع ثلاثة سيناريوهات محتملة لانخراط تركيا في التحالف الدولي ضد تنظيم داعش: 

•سيناريو الانخراط الجزئي: وفقًا لهذا السيناريو، ستشارك أنقرة في التحالف الدولي ضد التنظيم بشكل محدود، ولكن دون دمج قاعدة إنجرليك في عمليات التحالف. في هذه الحالة ستقدم واشنطن حوافز وقدرًا من التنازلات، ولكنها لن توافق على مجمل الطلبات التركية.

•سيناريو الانخراط الكامل: تبعًا لهذا السيناريو، ستشارك أنقرة في عمليات التحالف بشكل غير محدود، وستفتح قاعدة إنجرليك لعمليات التحالف. ولكن من غير المتوقع أن يتحقق مثل هذا السيناريو دون موافقة واشنطن على شروط أنقرة ومطالبها بشكل كامل.

•سيناريو الامتناع: بحسب هذا السيناريو، سيظل الوضع على ما هو عليه من امتناع تركيا عن المشاركة في عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

في ظل المتغيرات الجارية يبدو أن السيناريو الثالث "الامتناع" هو الأقرب، حيث تظل احتمالية فرض منطقة حظر الطيران ضعيفة جداً في ظل قبول واشنطن شبه المعلن بمحور الأسد – إيران كشريك ضروري في مكافحة الإرهاب المتمثل في تنظيم الدولة وبقية التنظيمات الراديكالية. أما فيما يخص العامل الروسي، ربما تستهدف أنقرة من الإحجام عن المشاركة الغربية في العقوبات على موسكو والانخراط اقتصاديا لا سيما في مجال الطاقة معها أكثر، مساحة أكبر للمناورة فيما يخص الملف السوري. ومن جهة أخرى ستظل معادلات القوة في القوقاز والبحر الأسود مؤثرة على العلاقات بين موسكو وأنقرة، ومن ثم رهانات كل طرف على سياسة الطرف الآخر حتى في الشرق الأوسط بشكل غير مباشر.


المصادر:

(1)  بالنظر من زاوية أمريكية تهدف إلى الحفاظ على النظام الدولي أحادي القطبية, فإن الدولة المتأرجحة عالميًّا هي تلك الدولة التي لديها موقع جيواستراتيجي, واقتصاد سريع النمو, والتزام تجاه القيم الديمقراطية, والتي تؤثر سياساتها الخارجية بشكل عميق على النظام الدولي ومركزه الأمريكي، سواء سلبًا أو إيجابًا. تلك الدول المقصودة هي التي تتوسط في التراتبية الهرمية للقوة الدول الصغيرة والمتوسطة من ناحية، والدول العظمى من ناحية أخرى. وتتمثل هذه الدول في: الهند, إندونيسيا, البرازيل, تركيا. 
للقراءة عن مفهوم "الدولة المتأرجحة" بشكل أكثر تفصيلا يمكن الرجوع إلى:
Daniel M. Kliman and Richard Fontanie, "Global Swing States: Brazil, India, Indonesia, Turkey and the Future of International Order", The German Marshall Fund of the Unites state and Center for American security, November 2012, Available at 
http://www.cnas.org/files/documents/publications/CNAS_GlobalSwingStates_...
 

(2) After Foreign Navies "Banned" From Caspian, U.S And Azerbaijan Push Back, Eurasia net, November 28, 2014, Available at.
http://www.eurasianet.org/node/70276 
 

(3) George Friedman, Ukraine, Iraq and a Black Sea Strategy, Stratfor, September 2, 2014, Available at:http://www.stratfor.com/weekly/ukraine-iraq-and-black-sea-strategy#axzz3...
 

(4) Akin Unver, Want Turkey's support against ISIL? Think Russia, Aljazeera, 03 Oct 2014 
http://www.aljazeera.com/indepth/opinion/2014/10/want-turkey-support-aga... 
 

(5) Ibid.

عن الكاتب

تامر بدوي

باحث متخصص في الشأن الإيراني


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس