د. علي حسين باكير - القدس الالكتروني 

عندما اندلعت التظاهرات في إيران، لم يصدر أي تعليق رسمي تركي، ولم تقم الصحافة التركية بتغطية الحدث بالشكل المتوقّع، على اعتبار انّ تصاعد الأحداث تزامن مع عطلة نهاية الأسبوع، وكذلك رأس السنة الميلادية. لكن ما إن عادت الدوائر الرسمية الى العمل حتى أصدرت وزارة الخارجية التركية بياناً بشأن التطورات الايرانية، تلاها اتصال بين وزير خارجية تركيا مولود تشاويش أوغلو ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف.

ركّز بيان الخارجية التركية على ثلاث نقاط أساسية هي: القلق حيال اتساع رقعة التظاهرات وسقوط قتلى، والتأكيد على حق الشعب الايراني بالتظاهر السلمي الذي لا يتعارض مع القوانين، والدعوة الى تغليب الحكمة والابتعاد عن التحريض والتدخّلات الخارجية.

فسّر كثيرون هذا البيان على انّه تبنٍّ للموقف الرسمي الايراني أو وقوف الى جانب الحكومة الايرانية، في حين أشار آخرون الى أنّه بيان روتيني لا يعبّر عن الموقف الحقيقي لتركيا، وأنّ الموقف الرئيس سيصدر في نهاية المطاف عن الرئيس رجب طيب أردوغان.

لكن، وبنظرة فاحصة، يمكن القول انّ البيان جاء متوازنا وغير منحاز، وإن أبدى حرصاً على الإشارة في أكثر من مكان الى ما يرتبط بالدولة الايرانية أكثر من الارتباط بالمتظاهرين. ويمكن القول في هذا المجال انّ البيان عبّر عن حالة حذر إزاء ما يجري في إيران، نظراً الى أنّ مسار الأحداث النهائي غير واضح لناحية الى من ستميل الكفّة بين المتظاهرين والحكومة، وكيف يمكن تفسير تحرّك الحكومة الايرانية البطيء؟ هل هو تعبير عن حالة استيعاب للمتظاهرين أم أنّه محاولة لفهم ما يجري قبل التحرّك العنيف؟ وهل ستتّسع رقة التطورات أكثر ام ستتّجه الى الانحسار؟

التريث أولاً 
في خلفية موقف «الخارجية» التركيّة، بدا أنّ المؤسسات الرسمية تميل الى التريّث وعدم التسرّع في الحكم، لكن سرعان ما بدأت المواقف الرسمية أمس بالتخلّي عن الحذر، واتخذ كثير من المسؤولين الأتراك موقفاً أكثر وضوحا مع التركيز على العامل الخارجي. وفي هذا السياق، لفت نائب رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، والمتحدث باسم الحزب، ماهر أونال، الى أن بعض القوى العالمية تستغل الاحتجاجات في إيران لتحقيق مصالحها أو أهدافها الخاصة، مشيرا الى أن بلاده لا تريد مزيداً من عدم الاستقرار في المنطقة.

أمّا وزير الخارجية مولود تشاويش اوغلو، فقد أشار هو الآخر الى أنّ الاحتجاجات تلقى تأييد شخصين؛ الأول رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتانياهو، والآخر الرئيس الاميركي دونالد ترامب، لافتا الى أنّ ما يجري شأن إيراني داخلي، مؤكّداً ان تركيا ضد أي تدّخل خارجي، وأنّها تريد للصدامات أن تتوقف في أقرب وقت ممكن تمهيدا لعودة الاستقرار.

كذلك، قال نائب رئيس الحكومة التركية والمتحدث باسمها، بكر بوزداغ: «إنّ تركيا تعارض تولي وتغيير السلطة عن طريق التدخلات الخارجية أو استخدام العنف أو الطرق المخالفة للدستور والقوانين»، في حين أكّد رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان في اتصال هاتفي مع نظيره الايراني حسن روحاني أنّ تركيا تولي أهمية للمحافظة على السلم والاستقرار الاجتماعي في إيران.

وباستعراض لهذه المواقف تمكن ملاحظة أنّ المفردات المستخدمة في التصريحات الرسمية مختلفة، وإن ركّزت على ضرورة تحقيق الاستقرار وانتقاد العامل الخارجي، وهو ما قد يوحي بحالة ارتباك إزاء ما يجري في إيران، مصحوبة بتخوّف من التدخلات الخارجية، ومثل هذه التوصيفات تبدو وكأنها انعكاس لمخاوف تركية اكثر من كونها بلورة لموقف متماسك مما يجري في إيران.

رد جميل
هناك من يفسّر المبادرة التركية السريعة للتعليق على انها محاولة لرد الجميل الى الحكومة الايرانية التي سارعت ــــ لأسباب ومصالح ذاتية متعلقة بها ــــ الى ادانة المحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت في تركيا في عام ٢٠١٦ لتظهر تضاماً مع الحكومة التركية آنذاك. لكن تمكن المجادلة بأنّه كان من الممكن للمسؤولين الاتراك أن يكسبوا بعض الوقت قبل إعطاء تصريحات حاّدة تتعلق بتطور الاحداث في إيران الى ان تتّضح الكفّة الراجحة.

في المقابل، وفي خلفية الموقف التركي مما يجري في ايران حتى هذه اللحظة، تمكن الإشارة الى عدّة عوامل، ربما تكون قد لعبت دوراً في عدم المسارعة الى دعم الاحتجاجات التي تجري في إيران، لعل اهمّها هو الخبرة المكتسبة مما جرى سابقا إزاء الثورات العربية، حيث دفعت تركيا أثمانا باهظة نتيجة مواقف رأى البعض انها مثالية، في حين اعتبرها آخرون غير واقعية، نظراً إلى الفجوة الموجودة بين تطلعات الجانب التركي ومدى قدرته على مواكبتها عملياً.

العامل الخارجي
ويعتبر العامل الخارجي من العناصر الأخرى الحاضرة بقوّة في الحسابات التركية مما يجري في إيران، اذ تبدي أنقرة حساسية شديدة مؤخراً إزاء كل ما يرتبط بالتدخّلات الخارجية، لا سيما الاميركية والغربية منها، فهي لا تريد ان تؤيّد مثل هذه التحرّكات الدولية التي قد تجعل منها لاحقا ضحيّةً لتدخل خارجي، لا سيما انّ تجربة المحاولة الانقلابية الفاشلة والمواقف الدولية الداعمة لها او المتقاعسة عن إدانتها لا تزال حاضرة في الأذهان بشكل قوي، بالإضافة الى التحوّط من مخاطر محتملة حيث من المنتظر ان تشهد انقرة في عام ٢٠١٩ عدداً من الاستحقاقات السياسية والاقتصادية المهمة جدّاً وسط استقطاب داخلي قوي وتضارب خارجي مع عدد من القوى الإقليمية والدولية.

هناك من يشير أيضاً الى وجود سيناريو لتوظيف الملف الصدامي مع حزب العمّال الكردستاني في جنوب ــــ شرق البلاد، وهو الملف الذي لا يزال مفتوحا على مختلف الاحتمالات، على الرغم من التقدّم الذي حققته القوات التركية ضد ميليشيات الحزب المصنّف إرهابياً.

مهما يكن الامر، فمن الواضح انّ هناك تحولات كبيرة قد طرأت على السياسة الخارجية التركية خلال السنوات السبع الماضية، ولا شك في انّ الملف السوري بالإضافة الى موقف اللاعبين الإقليميين والدوليين مما جرى قد غيّر من طريقة تعاطي تركيا مع مثل هذه الأحداث، كما انّ لنقاش العام حاليا لم يعد كما كان عليه في حينه لناحية الحديث عن القوة الناعمة والنموذج السياسي بقدر ما أصبح حديثا عن استهداف خارجي لتركيا التي تسعى حاليا للدفاع عن نفسها واحتواء خسائرها.

على انّ الثابت في كل ما فات هو غياب الرؤية الاستراتيجية في التعاطي مع الاحداث، والركون الى المواقف الآنية وردود الأفعال، وهو أمر يجعل من الصعب بمكان تقييم المواقف التركية البعيدة المدى وتشخيص المصالح التركية المتعلّقة بها بشكل صحيح.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس