إبراهيم كالن - ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس

في عام 1885، كتب المتمرد المفعم بالشك نيتشه أن "هناك عنصرا من الاضمحلال في كل ما يميز الإنسان المعاصر". وكانت هذه العبارة أكثر من مجرد تعبير عن التشاؤم الثقافي. لم يكن نيتشه واثقا من الوعود المحلقة في السماء التي بشر بها عصر التنوير والحداثة. وبعد أكثر من قرن من الزمان، تطرح حالة العالم الذي نعيش فيه صورة أكثر إرباكا.

أثار نقاد الحداثة الغربيين الراديكاليين تساؤلات خطيرة حول تحقق نبوءاتها، فبدلا من عالم العقل والعقلانية والعلوم والتكنولوجيا والمطالبة بالديمقراطية وسيادة القانون، رأوا أن الإمبريالية والاستعمار الأوروبيين، وعمل الأطفال، والاستغلال الرأسمالي، والصراع الطبقي، والاضطهاد، من أهم أفكار الحداثة. ومن أوزوالد سبينغلر ومارتن هايدغر إلى ت. س. إليوت وميشيل فوكو، رأى عشرات من المفكرين الغربيين النكوص والانحدار بوصفهما مبادئ توجيهية للعالم الجديد الشجاع. وكان بعضهم يحدوه الأمل في التغلب على أزمة العدمية، وبعضهم لم يكن لديه أمل. وهذا أحد المفارقات الدائمة للحداثة الغربية. فمن ناحية لديها الثقة الهائلة بالنفس والغطرسة لبناء عالم جديد يقوم على المركزية الأوروبية.

ومن ناحية أخرى تسود على نطاق واسع حالة من الإنكار وعدم الثقة العميق لدى المفكرين والعلماء والفنانين ضد الادعاءات المتغطرسة للعالم المعاصر. وقد شكلت هاتان الحقيقتان مسار التاريخ الحديث منذ القرن التاسع عشر. وفي النهاية انتصرت الحداثة الغربية لتقود إلى عالم من التناقضات الهائلة والتواريخ الموازية، وبعض هذه التناقضات همجية وكلها تناقضات مشينة. لم يشهد العالم في تاريخه قط مثل هذه الثروة الهائلة، لكننا لم نشهد مطلقا مثل هذه الفجوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء. وإذا كان العلم والتكنولوجيا قد قطعا شوطا كبيرا، فإنهما أخفقا في أن يحلا محل العقيدة الدينية والقيم الأخلاقية التقليدية. وفي المقابل يزداد الاهتمام بالأدب الغامض والأمور الباطنية والفنتازيا في البلدان الغربية العلمانية، وهمشت الأديان من قبل القوى العلمانية والعلمية في العالم الحديث. على أن هذه القوى تعود بطاقة جديدة، فإذا كانت الفردانية قد طرحت بوصفها أثمن هدية قدمها عصر التنوير، فقد جرى سحق الفرد في ظل نظام معقد ومرهق للحياة الحديثة، ولذا بدأت تتصاعد هناك أشكال جديدة من النزعة الجماعية.

إن العقل واللامعقول موجودان في العالم المعاصر. وعلى النقيض مما يدعيه السياسيون الانتهازيون والمحافظون الجدد، فإن هذا لا علاقة له بتصلب الإسلام أو المعتقدات الدينية الأخرى. إن الإخفاق في رؤية التناقضات الداخلية للنظام العالمي الحالي والظلم، الذي يعاني منه المسلمون بقدر ما يعاني منه الآخرون، ليس مجرد خطأ بسيط، ولكنه خطأ خطير أيضا؛ لأنه يغذي الاتجاهات الشرسة المناهضة للإسلام والإسلاموفوبيا في الغرب، ويبرر العنصرية وكراهية الأجانب ويجعلهما أمرا طبيعيا، ويخطف السياسة السائدة في الدول الغربية. وفي المقابل تغذي هذه السياسة الحركات المتطرفة العنيفة في العالم الإسلامي. وهذا كله يؤدي إلى التدمير الذاتي المتبادل.

إن إلقاء اللوم على الإسلام والمسلمين بسبب إخفاق مشروع الحداثة لا يمكن أن يكون استراتيجية للتغلب على عيوبها. إن تحريض الحداثة بوصفها عقلانية على الإسلام بوصفه لا عقلانيا لا يمكن أن يكون خطوة منطقية لفهم تعقيدات التقاليد الإسلامية والغربية. إن مقارنة مُثَل فرد وتعارضها مع واقع الآخرين هو منهج يقوم على الوهم الذاتي. إن تصوير الإسلام والمسلمين على أنهما مشكلة أمنية إنما هو غض للطرف عن الأزمة الحقيقية للعصر الذي نعيش فيه. وينطبق الشيء نفسه على المسلمين الذين اختاروا البقاء داخل المنطقة المريحة، بدلا من مواجهة مشاكلهم الخاصة بعقل منفتح . إن إلقاء اللوم على الغرب أو الحداثة  في كل ضرر تعرض له العالم الإسلامي لا يختلف مطلقا عن اللوم الذي يوجهه منظور مركزية أوروبا للإسلام. إن ارتكازنا على قيمنا شرط لا غنى عنه لكل العقائد الدينية، لكنه لا يمكن أن يكون ذريعة لعدم التفكير النقدي والانفتاح على العالم. بل على العكس من ذلك، فإن القرآن يحثنا على استخدام عقولنا لإدراك العالم وتحويله إلى موطن فاضل ومفهوم، حيث نمثل نحن الحقيقة والعدالة.

سوف يستمر العقل واللامعقول في التعايش والتدافع في العالم، الأمر الذي يجبرنا على اتخاذ خيارات بالغة الأهمية. والسؤال هو هل سنمنح العقل فرصة ليقودنا إلى طريق الفضيلة والمحبة والرحمة.

عن الكاتب

إبراهيم كالن

الناطق الرسمي باسم الرئاسة التركية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس