معاذ السراج - خاص ترك برس

ما هو مؤكد أن الاحتكاك المباشر بين السوريين والأتراك يمكنه أن يفعل الشيء الكثير على صعيد تفكيك الصورة الذهنية التي كونتها مراحل وسياسات سابقة، والتي تبدو عميقة إلى حد بعيد، أكثر بكثير من الفعل السياسي والجدل المستفيض الذي دار ويدور حوله. ذلك أن هذا الاحتكاك ولدّ فرصا كثيرة للتفاهم والتعاون بين السوريين والأتراك في الجوانب الثقافية والاجتماعية خاصة، ومن المؤكد أن مرور الزمن سيلعب دورا مهما في إزالة الكثير من الحواجز النفسية والذهنية التي خلفتها العهود السابقة. من أوائل النتائج التي برزت مبكرا نتيجة لهذا الاحتكاك استرجاع الكثير من المفردات اللغوية المشتركة، والتقاليد الاجتماعية والثقافية والدينية المشتركة، والتي توارثها الأبناء عن الآباء، وبدا اليوم أنها لا زالت تحتفظ بحيويتها رغم مرور ثلاثة أجيال على الأقل منذ حدث الانفصال والتفكك بين المجتمعات الشرق الأوسطية المنضوية تحت الإمبراطورية العثمانية.

ربما كان لمجال التعليم الفضل الأول في ذلك، كونه استوعب مئات الآلاف من الطلاب السوريين في مختلف مستويات الدراسة، وأتاح لهم فرصة جيدة لتعلم اللغة والاطلاع على العديد من جوانب الثقافة العلمية والاجتماعية التركية، فضلا عن بناء علاقات بمستويات مختلفة بين الطلاب والمعلمين الذين يمثلون عادة البيئة الأكثر عقلانية وتفهما، فهي على الأقل لا تحمل ذات الانطباعات السلبية الموجودة لدى بعض الشرائح الأكبر سنا من الطرفين السوريين والأتراك. ونظرا لضخامة عدد الطلاب في مختلف المراحل الدراسية (ربما يقرب من المليون) فيمكن الاستنتاج أن مجال التعليم أعطى الكثير من التوازن للآثار النفسية والاجتماعية المترتبة على وجود السوريين بهذه الأعداد الكبيرة والصادمة في المجتمع التركي. وحتى بالنسبة للكثيرين من غير الطلاب سواء كانوا حملة شهادات أو أميين بمن فيهم طاعنون في السن (تجاوز بعضهم السبعين أو الثمانين)، فقد أقبلوا على دراسة اللغة التركية في المراكز المساعدة التي تنشئها البلديات عادة (مثل الإسمك وغيرها)، ومما هو مؤكد أن هذا الأمر ساهم إلى حد معقول في إزالة العديد من الحواجز النفسية.

يضاف أن حضور السوريين في الأسواق والمتاجر والمطاعم وانتشارهم في الكثير من الأحياء الشعبية والمتوسطة أصبح من المشاهد اليومية المعتادة، وقد صار مألوفا مشهد العوائل السورية وأطفالها الكثر في المتنزهات والحدائق المنتشرة بين الحارات، وصار بالإمكان الاستماع بوضوح إلى اللكنة الشامية والحلبية هنا وهناك، ورؤية الكثير من النساء والشابات بأزيائهم السورية المميزة، ومظاهرهم التي لا تخطئها العين.

ومن المظاهر الملفتة كذلك انتشار الكثير من السلع والأكلات السورية، وانتشار المطاعم والبقاليات التي تكاد لا ترى فيها إلا السلع السورية المصنعة في تركيا، وظهر من بين المواد الكثر تداولا الخبز العربي أو (السوري) وصار له رواد ومستهلكون من الأتراك أنفسهم، وكذلك المعلبات والمكدوس والمربيات ومشتقات الألبان والخضار المجففة، وحتى الملوخية والبامية والكوسا والباذنجان بالأحجام الصغيرة والتي لا تتواجد عادة في الأسواق التركية، إذ سرعان ما بادر السوريون لزراعتها وتوريدها إلى الأسواق.

جوانب كثيرة أخرى يمكن ذكرها في هذا المجال ومنها على سبيل المثال الإذاعات والبرامج التي تبث على اليوتيوب ووسائل الاتصال الحديثة، والجمعيات المنتشرة بكثرة وفي كل مكان، وربما تفوق عدد مثيلاتها في سوريا نفسها، ولم لا فقد وجد السوريون أنفسهم في بيئة أقل ما يقال فيها إنها لم تكن طاردة، بل كانت إيجابية وجاذبة بالحد المعقول.

يحسب للسوريين هنا أنهم لم يستسلموا للبيئة الجديدة التي وفدوا عليها ولم يكتفوا بقسر أنفسهم وتوطينها على التأقلم والتكيف معها على ما هي عليه، لكنهم سرعان ما هضموها، وتجاوزوها بروح المبادرة الجريئة لاستحداث ما فقدوه في غربتهم في مختلف المجالات المادية والمعنوية، والتي لم نذكر منها إلا اليسير. وبالمقابل يحسب للبيئة التركية تحليها بقدر معقول من المرونة والتسامح والاستيعاب المتدرج والأريحي للصدمات التي أحدثها تدفق الوافدين الجدد وما يحملونه من عادات وسلوكيات بدت غريبة نوعا ما بالنسبة للمجتمع التركي الذي يحتفظ لنفسه هو الآخر بتقاليده وعاداته الخاصة.

ولتقدير حجم المشكلة وآثارها ودور المجتمع السوري الوافد والمجتمع التركي المحلي في معالجتها والتعامل معها، نشير هنا إلى أن مدينة مثل إسطنبول قد لا تتأثر بقوة نظرا لاتساعها وضخامة عدد سكانها، ومع هذا فإن  كثافة انتشار السوريين ومتاجرهم ومطاعمهم في العديد من الأحياء والأسواق المهمة بات ظاهرا للعيان، وباتت أحياء مهمة مثل الفاتح وفندق زادة وعصمان بيه وأسنيورت وغيرها مراكز تجمع مهمة يضم كل منها عشرات الآلاف من السوريين. وبالتأكيد فإن هذا المر سيبدو أكثر تأثيرا, بالنسبة لمدن أخرى أقل حجما مثل  أنطاكية وغازي عينتاب وأورفا، فما بالنا بالمدن الصغيرة مثل الريحانية وكيليس وتل أبيض ورأس العين، ففي هذه المدن قد يساوي عدد السوريين أو يزيد على عدد السكان المحليين.

ومن هنا فإن قلة الحوادث والمشاكل الاجتماعية الناجمة عن هذا الانتشار والاحتكاك المكثف، وتراجع هذه النسب عما كانت عليه في مراحل سابقة بمرور الزمن، يعتبر بلا شك من المؤشرات الإيجابية المهمة والتي تؤكد على أن فرص التفاهم والتعايش والاندماج التدريجي مع المجتمع التركي تتزايد باطراد يوما بعد يوم.

في الجانب الآخر، لا جدال في حق السوريين بل واجبهم، (وهم المعروفون بانخراطهم الكبير في السياسة وتدخلهم في كل شاردة وواردة)، في التعبير عن مشكلاتهم وأفكارهم وآرائهم، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمصالح الوطن والمجتمع، وهذا أمر مفهوم ومنطقي، ويزيد من خصوصيته أن السوريين اليوم شعب مصاب ومكلوم وجراحه عميقة، ومن هذا المنطلق فلا يستغرب أن تبدو منهم مواقف أو حساسيات مفرطة تجاه ما يواجهونه في البيئات الجديدة التي وفدوا عليها.

لكن وبعيدا عن السياقات الاجتماعية والثقافية، فإن من الملاحظ أن شرائح واسعة من السوريين توظف هذه الحساسية، في اتجاه سياسي، يعبر عنه تارة من وجهة قومية، وتارة من وجهة إسلامية، وثالثة من وجهة الحدث السوري نفسه، ويبالغ فيها حتى تصل أحيانا درجة العداء والكراهية المفرطة لدى البعض، فيما يمكن تسميته بـ(الفوبيا) التركية. وصار من الملفت أن تجد كثيرين لا يخفون توجهاتهم هذه، بل يتحدثون بها علنا ومجاهرة، ويملؤون بها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، ولا تكاد تمر فرصة أو مناسبة سياسية أو اجتماعية، أو حادثة هنا أو هناك حتى توضع تحت "مجهر النقد اللاذع"، خاصة عندما يواجه السوري سلوكا سلبيا من موظف حكومي، أو يصطدم بمواقف وإشكاليات تحدث في مدرسة أو شارع.

هنا تكمن العديد من المفارقات، ليس أقلها أن هذه الإسقاطات تبدو خارج السياق الزمني، بالنظر للظروف والمعاناة التي يعيشها السوريون اليوم والتي تحتاج لصرف الفكر والجهد في مواضع أكثر نفعا وجدوى في حل مشكلات الناس والتخفيف عن كاهلهم من أعباء المرحلة العسيرة التي يمرون بها... يبقى أن أن نشير إلى أن معطيات الواقع اليومي والإيجابيات التي تظهر باطراد نتيجة التعايش والاندماج التدريجي في دورة الحياة التركية سيصلح الكثير مما أفسدته سياسات الحقب السالفة، ويسهم في التخفيف من آثار (التركوفوبيا) ويدفع بها نحو الاندثار والتلاشي.

عن الكاتب

معاذ السراج

كاتب وباحث سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس