أحمد الهواس - خاص ترك برس

حتى آذار/ مارس 1924 كان ثمة وحدةٌ شعورية تجمع المسلمين - ولو اسمياً - تحت ظل الخلافة، وحين تمّ الإعلان عن إنهائها وجد المسلمون – ولا سيما ولايات الدولة العثمانية - أنفسهم لأول مرّة دولاً وشعوبًا وأنظمة وجنسيات ودون نظام سياسي جامع. حدثٌ لم يكن سهلاً بالمطلق، حتى في أذهان من عمل على إسقاط الخلافة العثمانية ظنًا منه أنّ ثمة خلافةً عربيةً ستؤول إليه كما أوهموه الذين استخدموه ضد الدولة العثمانية!

لم يعد مصطلحا المسألة الشرقية أو الرجل المريض كافيين للتعبير عن التغيير الجديد، وكان لابدّ من مصطلحات جديدة في ظل عالم جديد أخذ يتشكل بعد الحرب العالمية الأولى، عالمٌ يبدأ رأسه من الغرب المنتصر ويقسم العالم ما دونه شرق أوسط وأقصى، وشمال أفريقيا وبقية مناطق العالم التي تتشكل كقطع حول الغرب!

وقع العالم الإسلامي بين شرق أوسط - لينتهي بعد ذلك لـ 18 دولة تمتد من مصر إلى أفغانستان - وشمال أفريقيا - ما بعد مصر انتهاء بساحل الأطلسي -  منطقة فضاء مسلم، لكنه في الشق الأول – أي الشرق الأوسط – ليس عربياً خالصًا، وليس سنياً كاملاً، ولا يضمّ كامل العالم الإسلامي، بل وفي القلب منه ثمة  جسمٌ غريب بدأ يتشكل – إسرائيل – في معادلة تبدو أقرب للانهيار في أي وقت، وأن هذا الجسم الغريب مُعرّضٌ للفناء أو الذوبان في ظل هذا البحر المتلاطم من البشر المتجانسين على مدى أربعة عشر قرنا، دينًا وثقافة ورؤى، فهل بإمكان شرذمة وافدة أن تعيش وتستمر في هذا الجسد القوي؟ هذا الجسد  الذي كان حتى سنوات قليلة باسطًا قوته على العالم أو أنّه إحدى القوى العظمى فيه، قوة لم يتخل عنها المسلمون على مدار تلك القرون رغم كل النكبات التي طالتهم!

لم يكن تفتيت العالم الإسلامي دفعةً واحدة، ولم يكن الفعل "الجيو سياسي" إلا آخر المطاف بعد أن تمّت تهيئة النفوس بصدمة القرن التاسع عشر عبر النزعات القومية، وكذلك التسلل الهادئ لقلب الدولة العثمانية عبر قصة حماية الأقليات، فقد كان ثمة والٍ متغرب كمحمد علي باشا يملك القوة العسكرية الحديثة كفيلاً بالضغط على الدولة من الداخل ليجد السلطان نفسه بين أمرين أحلاهما مرّ إمّا انتهاء حكمه على يد والٍ من ولاته، أو أنّه يتنازل للغرب عبر القبول بقوانين التغرب التي ستكون فيما بعد سبيلاً للتغير المجتمعي وبداية النخر الطبيعي للدولة، فضلاً عن الأنموذج الذي شكلته دولة محمد علي التي كانت قاعدة غربية متقدمة في قلب العالم الإسلامي حيث القوانين الغربية والعلمانية وملامح ما يُعرف بالدولة الحديثة!

لم يكن صعبًا على القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى أن تحتل العالم الإسلامي وفي القلب منه العالم العربي بعد أن انتهى السدّ المنيع الذي تآكلت أحجارهُ رويداً رويداً عبر مراحل من صراع قاسٍ طويل، وهكذا بدت الكيانات التي رسمتها خرائط المحتلين بلادًا مُستعَمرة أو مُستحَمرة لافرق فالمهم أنّها ستنمو يومًا لتكون دولاً ضمن بناء رسمي عربي محكم وآخر إقليمي، بناءان يتجاوران ويتساندان في ظل بناء دولي آخر سيظهر بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تتموضع تلك الدول في منظومة جديدة بعد أن انهارت المنظومة السابقة – عصبة الأمم - لتكون الأمم المتحدة بديلاً، هذا البديل الذي ما زال قائمًا لم يجن منه العرب والمسلمون سوى النكبات، ولكنه واقع مفروض يقوده في الواجهة الخمسة الكبار المنتصرون في الحرب العالمية الثانية , وفي واقعه تتحكم فيه دولة عظمى واحدة، وثمة دول كبرى حولها مع غياب تام لأي دولة إسلامية فاعلة في القرار الدولي!

لم يكن تأسيس إسرائيل لينجح لولا تأسيس جامعة االدول العربية، فالجامعة العربية ليست جامعة شعوب، بل واقع حقيقي لشرعية الأنظمة، وهي أنموذج خاص ليس بالفيدرالي ولا الكونفدرالي، هو واجهة النظام العربي الرسمي الذي صنعته بريطانيا، وليس له أي عمل فعلي سوى طرح الأمنيات دون تحقق، وتحقيق المصائب دون أمانٍ! فهذا البناء ساهم في إضفاء صفة الدول على تلك الكيانات التي صنعتها بريطانيا وفرنسا، وبانتمائها للجامعة العربية أقرّت حقيقة التقسيم، هذا التقسيم الذي كان جزءًا من تقسيم العالم الإسلامي، ولم يكن كما يوهم القوميون أتباعهم أنه تقسيم طال الأمة العربية!

حققت الجامعة العربية مجموعة من النكبات في تاريخها ليس أولها تثبيت خطوط التقسيم في فلسطين، وليس آخرها المشاركة بتدمير العراق 1991!

لم يكن بقاء إسرائيل ضربًا من الخيال فقط، بل بقاء الأنظمة العربية كذلك، ولا سيما الأنظمة التي تحيط بها، فارتبط بقاء تلك الأنظمة ببقاء ذلك الكيان , فكان لا بدّ من صناعة "صراعٍ" يؤّمن بقاء الكيان الصهيوني ويحافظ على النظام الرسمي العربي، صراع يُضفي شرعية على تلك الأنظمة التي تحيط بإسرائيل كما يحيط السوار بالمعصم، صراع يوقف التنمية، ويعطّل الديمقراطية، ويدمّر مستقبل الإنسان العربي بذريعة المعركة القادمة، وكلما شعر صُناع تلك الكيانات بضعف في بنية نظام ما، وأول بوادر الضعف تكمن في قبول الديمقراطية كان لا بدّ من انقلاب عسكري يجعل من قضية فلسطين سببًا له وأنّ هذا الفعل جاء انتقامًا للكرامة العربية وإنهاءً للأنظمة الرجعية العربية! ليغرق هذا البلد أو ذاك في حكم عسكري يقوم على الشعارات الرنّانة التي تبدأ من قضية فلسطين - في وقت يبحث فيه الفلسطينيون المنفيون في بلاد العرب عن وطنٍ يعيشون فيه بكرامة - ولا ينتهي عند صناعة المارد العربي!

لم ينظر العرب المخدوعون بوهم الصراع مع الصهاينة أنّ ثمة كياناتٍ في عالمهم العربي لا تختلف عن الكيان الصهيوني إلاّ في أن هؤلاء الصهاينة جاءوا مهاجرين من خلف الحدود بوهم ديني ونالوا وطنًا بموجب وعد بريطاني، تحول هذا الوطن لدولة، وهذه الأنظمة العربية كان وجودها واجبًا لحماية الدولة الجديدة، وحماية مصالح الغرب أو مصالح المسؤول عن حماية وبقاء النظام الرسمي العربي والإقليمي، ولكي يتم ذلك فلابدّ لتلك الأنظمة أن تتوزع بين أسرٍ فاسدة، وعسكر بلا أخلاق، وأن يُنتقى الأسوأ فالأسوأ للحكم ويقوّى هؤلاء بجيوش تُصنّع على عين الغرب شعارها حماية الأوطان ومقاتلة الصهاينة، وحقيقتها حرب الشعوب وحماية الصهاينة، ومنع التنمية أو السماح لأي تجربة ديمقراطية في البلاد العربية، فضلاً عن حرب القيم وإشاعة الفساد!

ظلت قصة الصراع مع الصهاينة وسيلة بقاء تلك الأنظمة، وكان لابدّ من حروب تحريكية وتكتيكية تلمّع تلك الأنظمة وتقوّي الصهاينة، حتى جاءت ثورات الربيع العربي، فتعرّت الحقيقةُ شاخصةً أمام أعين الشعوب المغلوب على أمرها، وتبدو معادلة البقاء تتلخص في:

حين أنشأت بريطانيا الكيان الصهيوني دعمت وجوده بالكيانات المجاورة التي اطلقوا عليها دولاً، وهي كيانات تتساند فيما بينها لتشكل بناءً سياسياً محكمًا، لا يحق للشعوب العبث به، وأقاموا "وهم صراع" من أجل شرعية البقاء للجميع، ولهذا فإن السياسة العربية تحدثنا في أدبياتها عن الكيان الصهيوني ولكنها لا تتحدث مطلقا عن إخوانه في الرضاعة الكيان العلوي والهاشمي والعسكري في مصر وكيان الطوائف في لبنان وليس بعيدًا كيانات الآلات في الخليج...!

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس