معاذ السراج - خاص ترك برس

أثار انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق الشامل لتسوية قضية البرنامج النووي الإيراني، الذي تم التوصل إليه عبر مفاوضات مضنية انتهت فى مايو/ أيار 2015، لغطا كثيرا في العديد من الأوساط، على الرغم من أنه كان متوقعا، وفي مقدمة قائمة من إنجازات سلفه باراك أوباما التي وعد ترامب بإلغائها.

وبالنظر إلى أن العديد من الأطراف الدولية كانت قد وقعت على الاتفاق بما فيها الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فقد كان هذا مدخلاً طبيعياٍ لدى العديد من الجهات بما في ذلك الأمريكية منها، لانتقاد قرار ترامب من زاوية الانعكاس السلبي على مصداقية الاتفاقيات الدولية، أو على الأقل الاتفاقات التي توقعها الولايات المتحدة، ومدى التزام الأطراف الموقعة عليها، ويذهب البعض أبعد إلى أبعد من ذلك بالقول إن سلوك ترامب يعزز وجهة النظر القائلة بأن اتفاقات الحد من انتشار السلاح النووي ليست جادة بما فيه الكفاية، وأنها لا تعدو أن تكون وسيلة للتوظيف والاستثمار السياسي والاقتصادي، وتتحكم فيه أمزجة صانعي القرار الدولي وتقديراتهم المصالحية. ما يدفع للاعتقاد بأن الذرائع التي سيقت في معرض تبرير الاتفاق ابتداء، بل وحتى إلغائه، لم تكن مقنعة إلى الحد المقبول، ما يستدعي النظر إلى مثل هذه السياسات بالكثير من الواقعية، وتجنب الإفراط في التشاؤم أو التفاؤل كليهما، دون معطيات ونتائج ملموسة.

غير أن ما ساقه ترامب في معرض تبريره للانسحاب من الاتفاق، كونه لا يحول دون تطوير إيران قدرات نووية بعد عام 2025، وخلوه من بنود تلجم نفوذ إيران فى سورية واليمن ولبنان، وتضع حدا لبرنامج الصواريخ الباليستية، يدعو للتساؤل حول ما كانت ستجنيه الولايات المتحدة من الاتفاق، أو جنته بالفعل خلال السنوات التي مرت على توقيعه، وما إذا ما كانت هذه المسائل لم تؤخذ حقا بعين الاعتبار، أو بعبارة أخرى أن الاتفاق "يمثل أسوأ الأمثلة على الاسترضاء المزري" كما قال السيد بولتون، مستشار الأمن القومي وأبرز المشككين في الاتفاق، والمؤيدين لإلغائه.

بالنسبة لأوروبا يمكن بسهولة تفهم قلق الأوروبيين وانزعاجهم من انسحاب الأمريكان من الاتفاق، والتهديد بالعودة للعقوبات، فالأوروبيون سبق أن وجدوا فيه متنفسا من الاحتكار الروسيّ لموارد البترول والغاز، وفرصة لتبادل الاستثمارات مع إيران، خاصة بعد رفع القيود عن 165 مليار دولار من أرصدتها المجمدة، ما كان سيعطي الاقتصاد الأوروبي الذي يعاني من الركود جرعة جيدة من الانتعاش، ومن هنا يمكن فهم ما قاله اللورد نورمان لامونت، رئيس الغرفة التجارية البريطانية الإيرانية، في تعليقه على قرار ترامب بأن العلاقات التجارية بين لندن وطهران تمضي بصورة طبيعية، لكنه أضاف: "سيخيب ظن الكثير من الناس جراء هذا (قرار ترامب) وأعتقد أن هذا القرار خطير للغاية".

لكن فرضية أن أوروبا استفادت بالفعل من الاتفاق تطرح بالضرورة تساؤلا جديرا، حول ما إذا كانت أطراف أخرى قد تضررت منه؟

والحقيقة الماثلة هنا، هي أن إيران تمارس بالفعل سياسات خارجية ألحقت الكثير من الأضرار بعدد من البلدان بما فيها الحليفة للولايات المتحدة، والأمثلة أكثر من أن تحصى، كالعراق وأفغانستان واليمن والمغرب (مؤخرا). وفي حين تبدو سوريا الساحة الأكثر جدية وخطورة نظرا لكونها تكمل هلال النفوذ الإيراني وامتداده حتى البحر المتوسط، فإن مما لا شك فيه أن السعودية، وهي الحليفة الأهم للولايات المتحدة في المنطقة، باتت تحت التهديد الإيراني المباشر، وهي تعاني الكثير بعد تورطها في الصراع مع الحوثيين في اليمن، الذين استهدفت صواريخهم الإيرانية الصنع، مراراً قلب العاصمة الرياض، والسعوديين اليوم يشعرون بالمزيد من الخيبة والإحباط نتيجة للخذلان الغربي، والأمريكي على وجه التحديد، والذي ازداد أكثر بعد فشلهم في الحد من نفوذ حزب الله، بعد نتائج الانتخابات الأخيرة هناك.

في كل سياساتها تلك، من المؤكد أن إيران لم تستعن بالقنبلة النووية، بل على العكس من ذلك كما يرى كثيرون، فإن الاتفاق النووي بدا وكأنه أطلق يدها، أي يد إيران في المنطقة، وأمدها أكثر بتخفيف قيود الحصار الاقتصادي والدبلوماسي، والإفراج عن أرصدتها المجمدة، لتستخدمها في متابعة تنفيذ سياساتها المدمرة.

وهكذا ففي حين ترى أوروبا ودول أخرى أن مصلحتها تكمن في الحفاظ على الاتفاق وتحسين شروطه، فإن البعض الآخر يرى فيه ثغرات خطيرة كونه لم يأخذ بالاعتبار لجم إيران، الدولة التي أسست استراتيجيتها القومية على ركيزة خلق الخلاف وزعزعة الاستقرار ليس في منطقة الشرق الأوسط فحسب، وإنما في كل مكان تستطيع الوصول إليه؟

من طرف إيران تحديدا فإنها وحدها هي التي تعرف تماماً قدر نواياها الحقيقية في هذا الصدد، فهي ربما كانت بالفعل لا تعمل على إنتاج الأسلحة النووية. لكنها ماضية قدما لتهيئة المجال تماماً من حيث تأمين القدرات التقنية، والصناعية، والموارد اللازمة لإنتاج مثل هذه الأسلحة إذا ما قررت المضي قدماً على هذا المسار، وهي تتحدى دائما بأن لديها القدرة الكافية لتنفيذ تهديداتها، وأنها قد أصبحت بالفعل قوة صاروخية كبرى في منطقة الشرق الأوسط، ويمكنها استهداف كافة حلفاء واشنطن في المنطقة.

ربما يبني البعض تفاؤله حيال انسحاب ترامب من الاتفاق على ما يعلنه صقور واشنطن، ومن أبرزهم جون بولتون، عن اعتقادهم أن السياسة الواقعية الوحيدة التي يتعين اعتمادها إزاء إيران هي سياسة تغيير النظام الحاكم هناك قبل أن يتمكن الخمينيون من بناء الترسانة النووية الحقيقية. وأنهم يعتقدون أنه يمكن تحقيق تلك الغاية عبر مزيج من الضغوط العسكرية والدبلوماسية المقترنة بالدعم المعنوي والمادي من قبل الحركة المؤيدة للديمقراطية في الداخل الإيراني.

لكن هناك بالمقابل من يرى عدم الاستعجال أو الإفراط في التفاؤل، وقد أوضحت هذا الاتجاه تغريدة لجمال خاشقجي نشرها على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي، تويتر، قال فيها: "الاحتفالية المبالغ فيها بانسحاب ترامب من الاتفاق النووي مستعجلة، فالذي يهم السعودية هو إطلاق يد ايران في المنطقة فهل سيفعل شيئا حيال ذلك؟ ربما، ولكن تجارب الماضي تقول غير ذلك."

ربما كان من المبكر الاعتقاد أن ثمة سياسة أمريكية جديدة في المنطقة، أو تجاه إيران على الأقل، وإذا ما صحت الأنباء عن قرب انسحاب الأمريكيين من سوريا، وإسناد دورهم هناك لجهات أخرى لم يتضح بعد، ما إذا كانت الحلفاء الكرد، أم الحليف الأقدم تركيا، فمن الواقعية بمكان انتظار النتائج التي ستسفر عنها الإجراءات والتهديدات التي وعد ترامب باتخاذها، وما إذا كانت كافية لتلجم إيران وتكف شرورها عن المنطقة؟

عن الكاتب

معاذ السراج

كاتب وباحث سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس