محمد نور النمر - خاص ترك برس

شكلت اللغة العربية العمود الفقري الذي يربط جناحي جسد الحضارة الإسلامية العرب والأتراك، فالقرآن من حيث هو كتاب سماوي نزل باللغة العربية، شكل جسراً من التواصل الحضاري بينهما، لا تستطيع أية سلطة سياسية مهما كانت متطرفة أن تمحي أثاره أو حتى أن تتجاهل أهميته، ولا نحتاج إلى أدلة كثيرة لكي نثبت تلك العلاقة الوثيقة بين المجتمعين التركي والعربي، فالوقائع التاريخية أكثر بكثير من أن تختصر بعجالة، فهي تمتد على مساحة زمنية طويلة من جهة، وهي أيضاً متنوعة - من دينية واجتماعية وسياسية – من جهة أخرى، وهذا يصعب على فريق بحثي كبير متخصص أن يأطرها في قوالب منظمة ودقيقة.

سجلت اللغة العربية حضوراً تاريخياً لافتاً في المجتمع التركي من حيث إنها لغة الإسلام، وربما لا يداني في ذلك التأثير أي مجتمع آخر اتخذ من الإسلام ديناً له، ويعود ذلك لاعتبارات دينية وجغرافية وسياسية جعلت من الأتراك والعرب تحت راية حضارية واحدة هي الإسلام، وهذا ما جسدته الدولة العثمانية بوصفها شكل من أشكال الحضارة الإسلامية كالأموية والعباسية عموماً، وما كرسته في ثقافتها بأن يكون حروف لغتها من الأبجدية العربية على وجه الخصوص.   

لعل الآصرة الدينية التي تجلت بالإسلام كانت من أقوى الأواصر بين الأتراك والعرب، لأن الحضارة الإسلامية بالأساس لا تعطي أية قيمة للبعد القومي، فقد اجتمع فيها العرق العربي والفارسي والتركي والهندي والكردي والأفريقي...، كل هذه الأعراق كانت متمازجة ومتعاونة وكلها على قدم المساواة دون أي تمييز  بين هذا العرق أو ذاك، وهذا ما ميزها عن غيرها من أشكال الحضارات الإنسانية الأخرى، فمثلاً الحضارة الرومانية التي جمعت أعراق متعددة كانت تقوم على مبدأ سيادة العرق الروماني على غيره من الأعراق الأخرى التي تنطوي تحت سلطة تلك الحضارة، أما الحضارة الإسلامية فإن ما يجمع بين هذه الأعراق هو البعد العقائدي القائم على مبدأ التوحيد، وليس على أساس الجنس واللون والأرض اللغة، مطبقة بذلك حديث الرسول صلى الله وسلم: لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، لذلك صبت كل تلك الأعراق تجاربها الشخصية والقومية والتاريخية في خدمة التصور الإسلامي.

لا يتعلم الأتراك اللغة العربية من موقع الشعور بالدونية، على ما يحدث عندما تتعلم الشعوب المتخلفة اللغة الانكليزية مثلاً، فالأتراك يتعلمونها - أي اللغة العربية - من موقع الفاعل والمشارك في إبداع تلك الحضارة الإسلامية، فها هو بديع الزمان سعيد النورسي من أهم مفكري الإسلام بتركيا، صاحب نظرية نهضوية إسلامية حديثة تجمع في طياتها التوفيق بين التراث الأصل  والعلوم الدنيونية الحديثة، يدعو في النصف الأول من القرن العشرين في كتاباته الرئيسة "رسائل النور" الذائعة الصيت إلى وجوب تعلم اللغة العربية ، لأنها تعد الشرط الضروري لفهم الإسلام وتأمل معانيه وإدراك مقاصده.

ويبدو اهتمام الحكومة التركية مميزاً في تعليم اللغة العربية، فلم يعد الأمر يتعلق بالحاجة الدينية الأساسية من قراءة للقرآن، أو تكلمها في الصلاة فحسب، بل تعداها - رغم أهميتها باعتبارها ركيزة أساسية- نحو الإحساس بالدور الحضاري الريادي لتركيا الحديثة، حيث يبدأ تدريس اللغة العربية في كل المراحل التعليمية، من المرحلة الابتدائية والوسطى كمادة اختيارية إلى جانب الألمانية والفرنسية وغيرها اللغات الأوربية الأخرى، إلى المرحلة الثانوية التي تُدرس فيها كمادة أساسية، وما يعطيها أهمية أكبر في هذه المرحلة، - أي المرحلة الثانوية - هو تدريسها أيضاً في ثانويات الأئمة والخطباء كمدارس دينية رسمية تعدادها كبير جداً في تركيا، هذا بالإضافة إلى عدد كبير من مدارس الأوقاف الخاصة المنتشرة في كل مدن تركيا، وعدد من المسابقات التي  تقيمها هذه المدارس بين طلابها، وخاصة مدارس الأئمة والخطباء في كل عام، ومسابقات عالمية كبرى لتشجيع تعلم اللغة العربية.

تأتي كليات الإلهيات التي تجاوز عددها الثمانين في تركيا، لتكمل الدور الذي تلعبه اللغة العربية في الجمهورية التركية، فلا تأتي أهمية هذه الكليات فقط في أنها تكمل مراحل التعليم الديني الثانوي "الأئمة والخطباء"، إنما أيضاً هي منارات معرفية كبرى يناط بها دور نشر الوعي الديني في داخل تركيا وخارجها.

هذه الخطوات التي قامت بها الحكومة التركية منذ أكثر من عشر سنوات، لم تأتي فقط استجابة طبيعية لسياسة الانفتاح التي تنتهجها تلك الحكومة على العالم العربي، وعلى كل المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والسياحية والإعلامية، إنما أيضاً إدراكها للمكانة التي تحتلها اللغة العربية في هذا الدور التاريخي لتركيا ومسؤوليتها الحضارية ليس فقط اتجاه العالم العربي، إنما أيضاً اتجاه العالم الإسلامي عموماً، وهو ما ولّد حاجة ماسة إلى يجيد اللغة العربية تحاول تركيا سدّها في كل تلك المجالات، من خلال إرسال المتعلمين لها إلى البلاد العربية، أو استقدام أساتذة عرب للتدريس في كل المؤسسات التعليمية التركية.

ولما كانت تركيا تدرك جيداً طبيعة الدور الحضاري الذي تنشده، وانطلاقاً من أهمية العالم العربي في هذا الدور، فقد أطلقت قناة تلفزيونية "التركية" تتحدث بشكل كامل باللغة العربية، إلى جانب المسلسلات والأفلام التركية المدبلجة إلى اللغة العربية  فهي - أي القناة – لا تكتفي بتعريف العرب على مكنونات تركيا الحضارية قديماً ومكتسابتها التقدمية حديثاً، إنما أيضاً تناقش مجمل القضايا والمشكلات المشتركة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بين الأتراك والعرب كجسر حضاري جديد بينهما، هذا بالإضافة إلى عدد من المراكز الثقافية التركية وخصوصاً تعليم اللغة التركية، وهذه المراكز ملحقات رئيسة بالسفارات التركية المنتشرة في الدول العربية.

ينظر العالم الإسلامي عموماً والعرب على وجه الخصوص بعين الإعجاب لما تشهده تركيا من تطور وتقدم حضاري على كل المستويات الاقتصادية السياسية والاجتماعية والعلمية، ليس فقط من خلال التأكيد على  التاريخ الطويل الذي ربط بين العرب والترك، في ذلك الوقت كان الأتراك ناشري العقيدة الإسلامية من جهة، والمدافعين عنها من جهة أخرى، وليس هذا الإعجاب أيضاً نتيجة لموقف قادتها من القضية الفلسطينية، وهي قضية لها مكانة عاطفية وتاريخية لدى الشعوب العربية، وبمجرد وقوف تركيا مع الحق العربي، تداعت للعرب المواقف التاريخية للسلاطين العثمانيين المتأخرين الذين رفضوا الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، إنما أيضاً - رؤية البعض إليها - الأنموذج الأمثل للتقدم الجديد المستند على الهوية الحضارية، وخاصة في طبيعة النظام السياسي الذي نجح بالمزاوجة بين التراث الإسلامي وبين نظام الحكم الحديث، من حيث هي تجربة فذة في الحداثة السياسية المعاصرة.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس