صلاح المختار - الجزائرية للأخبار

ثمة تفسيرات كثيرة لسبب تفجر الازمة بين امريكا وتركيا الان لكن الكثير منها خاطئ واول تفسير مضلل هو ان اعتقال القس سبب التشدد الامريكي فرغم ان الازمة الجديدة بدات عندما طالبت ادارة ترامب باطلاق سراحه وفسرت تصعيدها للحملة ضد تركيا على انها من اجل اطلاق سراحه الا انها اكدت ان اطلاق سراحه لن يحل المشكلة مع تركيا وانها لن تتراجع عن التصعيد ضدها !وذهب البعض الى افتراض ان الازمة السورية هي السبب ولكن مؤشرات سوريا تؤكد ان الموقف التركي لم يتغير ولا الموقف الامريكي بصورة جوهرية ،وهو ما زاد غموض الغاز التصعيد مع تركيا . ثم جاء تفسير اشد تبسيطا يقول بان الازمة مع تركيا سببها دعمها للاخوان المسلمين ولكن هذ المنطق سقط ايضا مع ملاحظة ان امريكا تدعم قطر وتمنع السعودية والامارات من انهاء نظامها السياسي مع ان قطر متهمة بانها الداعم والممول الاول للاخوان وبتشجيع امريكي معروف !

الغاز تتعمد امريكا تعقيدها وزيادة غموضها لتصبح دخانا كثيفا يمنع رؤية ما يجب رؤيته كي نفهم حقيقة ما يجري من موريتانيا الى عمان خصوصا تغذية وادامة كل اشكال التشرذم والحروب والكوارث .وقبل ان نبدأ بعرض ملاحظاتنا لابد من التذكير باهم عوامل كشف حقيقة المخطط الامريكي وهو الموقف من اسرائيل الشرقية ففي حين كانت الاغلبية الساحقة من العرب والعالم تنتظر ضرب نظام الملالي بعد التصعيد الامريكي الخطير ظاهريا كان ترامب يضع الالغام في الموقد التركي ويفجرها بدل الموقد الايراني! وهذه المفارقة تذكرنا بمفارقة ابرز وهي ان امريكا كانت تهاجم نظام الملالي اعلاميا لكنها شنت الحرب العسكرية على العراق وغزته بالتعاون مع نظام الملالي !

لم تضرب اسرائيل الشرقية رغم كل التهديدات وتبادل الشتائم وتحول الامر الان الى طلب التفاوض معها وتأكيد ما كنا نكرر قوله منذ التسعينيات بان امريكا لن تضرب اسرائيل الشرقية بل تريد منها التقيد بالخطوط الحمر الامريكية لانها ذخيرة ستراتيجية لها هي الاغلى من اي ذخيرة اقليمية اخرى بما في ذلك اغلى من اسرائيل الغربية بمعايير مرحلة شرذمة العرب كهدف سوبرستراتيجي، والدليل لم يعد سرا بل انكشف فمن حقق الهدف الاهم ستراتيجيا لاسرائيل الغربية ولامريكا وهو تدمير وتفتيت الاقطار العربية وتعطيل قدراتها العامة خصوصا القتالية لربع قرن على الاقل هو نظام الملالي بالذات وليس اسرائيل الغربية او امريكا او بريطانيا ،وهذه هي الخدمة الاعظم التي حصلت عليها امريكا واسرائيل الغربية خلال ستة عقود من الصراع العربي الصهيوني ، فهل يعقل ان امريكا تضرب الان هذه القوة التدميرية المتخصصة بتدمير الاقطار العربية وايجاد المبررات لنهب امريكا ثرواتها وابادة وتهجير عشرات ملايين العرب من وطنهم واحلال الغرباء بدلا عنهم وهو من اهم الاهداف الاستعمارية منذ الحروب الصليبية ؟

واضح رسميا ان المطلوب من اسرائيل الشرقية الان هو العودة للنص الامريكي فقط بعد ان تصور خامنئي ان فشل امريكا امام المقاومة العراقية وقيامها بتسليم العراق له دليل عجزها عن ايقافه اذا قرر التوسع على حساب مصالح امريكا. نغول خامنئي في العراق صوروا له انهم يستطيعون تركيع امريكا اذا ارادت تأديب نظام الملالي واعادته للمربع المخصص له مسبقا .لكن الاصرار الامريكي على اعادة ضبط السلوك الايراني اقترن بتصعيد تنفيذ خطة نقل الفوضى الهلاكة الى تركيا وكانت مقدماتها التي فاتت على كثيرين هي التالية :

1-شجعت امريكا تركيا على لعب دور سلبي جدا في غزو ليبيا من قبل حلف النيتو.

2-شجعت امريكا تركيا ايضا على تعقيد الازمة السورية بتغذية صراع البنادق في سوريا بدل الانتفاضة الشعبية السلمية ضد نظام الفساد والاستبداد والطائفية .ولكن بخلاف توريط تركيا في الازمة الليبية فان توريطها في الازمة السورية كان مقدمة لانتقال الصراع الى داخل تركيا بالذات. وهذا كان هدف مخطط له لاستثماره الان ضد تركيا.

3- بدات خطوات اخرى من المخطط الامريكي تنفذ بدعم منظمات كردية تعمل ضد وحدة تركيا وسلحت واعيد تنظيمها واهلت لدور خطير في سوريا كي تمارس تأثيرات هذا الدور لاحقا في تركيا بالذات . فوجدت تركيا نفسها في حالة حصار وازمة فهي تورطت ولا تستطيع الانسحاب وهي ايضا تعرف ان تورطها سيكلفها غاليا من سمعتها اولا ثم من وحدة تركيا بالذات .وبالفعل فقد تحولت حركة سياسية كردية بسيطة ومعزولة في شمال سوريا الى قوة مسلحة وفعالة لديها القدرة على تهديد تركيا بعد ان تدربت وتسلحت بسلاح ثقيل والاهم بعد ان تمتعت بحماية امريكية رسمية 

4-اما انقلاب غولن والذي خططت له المخابرات الامريكية في قاعدة انجليرك التركية بالذات فكان خطوة اريد منها حسم الامر في تركيا ليس لصالح العسكر ولا لصالح غولن بل لصالح بدء مرحلة تفتيت تركيا من الداخل كما حصل في اقطار عربية . علينا ان نتحرر من وهم ان امريكا تريد وصول فتح الله غولن الى السلطة والاستقرار فيها فقد حرضته ودعمته ولكن ليس ليحكم هو او احد انصاره بل ليشعل نارا لن تخمد الا بعد انتشار الحرائق في كل تركيا كما حصل في العراق وسوريا . والا لم انتظرت امريكا سنوات طويلة نجح خلالها نظام حزب العدالة والتنمية في تقليم اظافر العسكر وبناء شعبية ممتازة ولم تحاول وقتها اسقاطه وكانت قادرة لان العسكر كانوا هم القوة المسيطرة بلا منازع وهم تحت سيطرتها ؟

لقد حدث في تركيا شيء شبيه بما حدث في اسرائيل الشرقية حينما اراد الشاه سحق الانتفاضة الشعبية بالدبابات واصدر اوامره للقيام بذلك واستعد الجنرالات لتنفيذ الامر بحماس شديد لكن الجنرال هويزر مبعوث مستشار الامن القومي الامريكي زبجنيو بريجنسكي وكما قال في مذكراته وصل طهران وامر الجنرالات بعدم تنفيذ اوامر الشاه فالتزم الجنرالات باوامر واشنطن وكانت النتيجة هي انتصار خميني وكل ذلك حصل لان امريكا ارادت اسقاط الشاه وايصال الملالي للحكم كي يحققوا ما نراه الان من كوارث في المنطقة كلها .

ويجب ان نقر الان بان المخابرات الامريكية هي التي منعت جنرالات تركيا من اسقاط نظام حزب العدالة والتنمية عندما كان مازال ضعيفا عسكريا ليس دعما للحزب واردوجان بل كي يكمل بناء قواعده العسكرية والشعبية لان المطلوب ليس وجود عسكر متفوقين ويستيطعون بسهولة اعدام اردوجان كما اعدموا عدنان مندرس بلا مقاومة فلا تقوم فتنة حرب اهلية بل كانت تريد تشكل فريق قوي مقابل فريق قوي اخر لايمكن لاحدهما حسم الصراع بسهولة ،ومن ثم نشوب صراعات دموية متسلسلة في تركيا وتؤدي لخرابها كما خرب العراق وسوريا واليمن وليبيا واكثر وصولا الى تقسيم تركيا . لكن ادروغان انتبه لهذا الهدف الامريكي ضرب حيث اوجع امريكا بتصفية الجيش والمخابرات من نغول امريكا وبلا رحمة او تردد .

5- تركيا تواجه انقلابا بعدة مراحل بدأ بالعسكر ففشل ثم انتقل الى خيار التدمير الاقتصادي . والهدف الواضح هو تغيير الاستقطابات السياسية والاجتماعية التركية التي يراد اعادة تركيبها وخلط الاوراق . فكما اوصل العراق وسوريا رغما عنهما الى مرحلة تفكيك الكتل الكبيرة احزابا وعشائر وطوائف واثنيات وخلق حالة تبعثر القوى فان المخطط يدفع تركيا بهذا الاتجاه .

ما يجري في تركيا خطوات متعاقبة ومترابطة من اجل تقسيمها ومن لاينتبه لهذه الحقيقة لن يصل الى نتيجة واضحة :كل الخطوات التي تتضمنها الخطة الامريكية هدفها النهائي تقسيم تركيا ،ومقابل ذلك يقتصر الهدف الامريكي في اسرائيل الشرقية على تقليم اظافر نظام الملالي واعادته الى خلف الخطوط الحمر التي وضعتها امريكا له منذ اسقطت الشاه ، اما شرذمتها فهي هدف مازال بعيدا ان وجد فعلا .

هل هذه الخطة منفصلة عما جري ويجري في العراق وسوريا واليمن وليبيا وبقية الاقطار العربية التي تعدها امريكا للسلق بنار هادئة كالسعودية ومصر والجزائر وغيرها ؟ كلا فما دامت امريكا مأزومة وتجاوز دينها العام سقف العشرين تريليون دولار فانها لن تهدأ الا بشرذمة الامم القوية والغنية وتركيعها وتقسيمها ونهب ثرواتها او عرقلة منافستها لها ،وهذا يشمل الاتحاد الاوربي وروسيا والهند والصين ولو بتدرج ، واذا قسمت تركيا فان تقسيم العراق وسوريا وغيرهما يصبح محتملا اكثر ،وهكذا تتحول الاقطار العربية وتركيا الى ممالك وجمهوريات موز لعدة عقود وتضعف قدرات المقاومة ضد التمادي الامريكي والاسرائيلي الغربي في التغلغل والانتشار الاقليميين .

يبقى سؤال مهم جدا وهو : هل انتخاب ترامب رئيسا يعود الى مزاجيته لانها سمة تحتاجها امريكا الان لتسويق سياسات متناقضة وغير منطقية وتحميل ترامب مسؤوليتها ولكن بعد ان يقوم بالدور المرسوم له وهو نشر التفكك والفتن في كل مكان تماما كما حدث مع جورج بوش الصغير الذي صار رئيسا لانه (اغبى رئيس في التاريخ الامريكي) كما توصل استبيان امريكي كي يقوم بجريمة تدمير وطن كامل وابادة وتهجير ملايين العراقيين ثم يذهب وتذهب معه المسؤولية وتنتقل امريكا لتدمير بلد اخر وبواسطة رئيس اخر يحمل ايضا المسؤولية ؟

ما تريده امريكا ليس اسقاط النظام في تركيا ولا عزل رئيسه رجب طيب اردوجان بل اسقاط تركيا كلها هذه المرة في مستنقعات الفوضى الهلاكة كما حصل للعراق وسوريا واليمن وليبيا والتي بدأت كلها بحجج واهية تبين لاحقا انها مجرد دخان يخفي الاهداف الخطيرة لامريكا ومن معها، وهنا نرى الضرورة السوبرستراتيجية بل المصيرية لقيام تحالف عربي عام مع تركيا،وليس مع قطر فقط،لمواجهة المصير الواحد وبغض النظر عن كل الاعتراضات على بعض السياسات التركية فما نواجهه هو صراع وجود ، فمن دون هذا التحالف لن يستطيع العرب التحرر من ابتزاز امريكا في عهد التاجر الجشع شايلوك (ترامب)، كما لن تستطيع تركيا تحمل اثار ازمتها الاقتصادية وحدها ومن دون المال العربي القادر على تحييد الاثار السلبية للعقوبات الامريكية .

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس