د. علي الصلابي - خاص ترك برس

بعد وفاة السُّلطان محمَّد الفاتح تولَّى ابنه بايزيد الثاني (886هـ / 918هـ) السُّلطة في البلاد، وكان سلطاناً وديعاً، نشأ محبَّاً للأدب، متفقِّهاً في علم الشَّريعة الإِسلاميَّة، شغوفاً بعلم الفلك. واستعان بالخبراء الفنِّيِّين اليونانيِّين، والبلغاريِّين في تحسين شبكة الطُّرق، والجسور؛ لربط أقاليم الدَّولة ببعضها.

أولاً: الصراع على السُّلطة مع أخيه:

كان الأمير «جم» عندما بلغه وفاة أبيه يقيم في بروسة، وقد استطاع أن يتحصَّل على اعتراف السُّكان به سلطاناً على الدَّولة العثمانيَّة في المناطق الخاضعة له، وبعد أن استتبَّ له الأمر في بروسة وما حولها؛ أرسل إِلى أخيه بايزيد يطلب منه عقد الصُّلح، ويقترح عليه التَّنازل، أو تقسيم الدَّولة العثمانيَّة إِلى قسمين: القسم الأوربيِّ لبايزيد، والقسم الآسيويِّ له، لكن بايزيد رفض؛ وأصرَّ على أن تبقى الدَّولة موحَّدةً تحت سلطته، وأعدَّ جيشاً ضخماً سار به إِلى بروسة، وهاجمها، وفرَّ منها «جم» إِلى سلطان المماليك قايتباي في مصر فرحَّب به، وأكرمه، وأمدَّه بجميع ما احتاجه من أموالٍ للسَّفر مع أسرته إِلى الحجاز؛ لأداء فريضة الحجِّ.

ولما عاد من الأراضي المقدَّسة إِلى مصر أرسل إِليه السُّلطان بايزيد يقول له: (بما أنَّك اليوم قمت بواجباتك الدِّينية في الحجِّ، فلماذا تسعى إِلى الأمور الدُّنيويَّة، من حيث إنَّ المُلك كان نصيبي بأمر الله، فلماذا تقاوم إِرادة الله؟ فأجابه بقوله: هل من العدل أن تضطجع على مهد الرَّاحة، والنَّعيم، وتقضي أيامك بالرَّغد واللَّذات، وأنا أحرم من اللَّذة والرَّاحة، وأضع رأسي على الشَّوك؟! وقام «جم» بالاتِّصال بكبار أتباعه في الأناضول، وأثارهم ضدَّ بايزيد، وتقدَّم بأتباعه ليغتصب العرش، ولكنَّه هزم، واستأنف المحاولة، فهزم أيضاً.

والتجأ «جم» إِلى رودس حيث يوجد بها فرسان القدِّيس يوحنا، وعقد مع رئيس الفرسان اتفاقاً إِلا أنَّه نقضه تحت ضغط بايزيد، وأصبح «جم» سجيناً في جزيرة رودس، وكسب فرسان القدِّيس يوحنا بهذه الرَّهينة الخطيرة امتيازاتٍ، طَوْراً من بايزيد الثَّاني، ومرَّةً أخرى من أنصار «جم» بالقاهرة، فلمَّا تحصَّل رئيس الفرسان على أموالٍ ضخمةٍ؛ باع رهينته للبابا أنوست الثَّامن، فلمَّا مات هذا البابا ترك «جم» لخلفه إِسكندر السَّادس، ولكنَّ الأخير لم يبق على «جم» كثيراً؛ حيث قُتل، واتُّهم في ذلك بايزيد الثَّاني؛ الَّذي تخلَّص من خطر أخيه.

ثانياً: موقف السُّلطان بايزيد من المماليك:

حدثت معارك بين العثمانيِّين، والمماليك على الحدود الشَّاميَّة، إِلا أنَّها لم تحتدم إِلى حدِّ التهديد بحدوث حربٍ شاملةٍ بينهما، وإِن كانت قد أسهمت في أن يخيِّم شعورٌ بعدم الثِّقة بينهما، الأمر الَّذي أدَّى إِلى تعثُّر مفاوضات الصُّلح سنة 1491م ومع أنَّ السُّلطان المملوكي «قايتباي» قد ساورته مخاوف من احتمال قيام حربٍ واسعةٍ بينه وبين العثمانيِّين سواءٌ لإِدراكه ما كان عليه العثمانيُّون من قوَّةٍ، أو لانشغال جزءٍ هامٍّ من قوَّاته في مواجهة البرتغاليِّين، إِلا أنَّ السلطان العثمانيَّ «بايزيد الثاني» قد بدَّد له هذه المخاوف، حيث قام بإِرسال رسولٍ من قبله إِلى السُّلطان المملوكي سنة 1491م ومعه مفاتيح القلاع الَّتي استولى عليها العثمانيُّون على الحدود: وقد لقي هذا الأمر ترحيباً لدى السُّلطان المملوكي، فقام بإِطلاق سراح الأسرى العثمانيِّين، وأسهمت سياسة بايزيد السِّلميَّة في عقد صلحٍ بين العثمانيِّين والمماليك في السَّنة نفسها (1491م) وظلَّ هذا الصُّلح سارياً حتَّى نهاية عهد السُّلطان بايزيد الثَّاني عام 1512م، وأكَّد هذا الحدث حرص السُّلطان بايزيد على سياسة السَّلام مع المسلمين.

ثالثاً: وقوفه مع مسلمي الأندلس:

تطوَّرت الأحداث في شبه الجزيرة الأيبيريَّة في مطلع العصور الحديثة، فأصبح اهتمام الأسبان ينحصر في توحيد أراضيهم، وانتزاع ما تبقى للمسلمين بها خصوصاً بعدما خضعت لسلطةٍ واحدةٍ بعد زواج إيزابيلا ملكة قشتالة، وفرديناند ملك أراغون، فاندفعت الممالك الإسبانيَّة المتَّحدة قبيل سقوط غرناطة في تصفية الوجود الإِسلامي في كلِّ إسبانيا، حتَّى يفرِّغوا أنفسهم، ويركِّزوا اهتمامهم على المملكة الإِسلاميَّة الوحيدة غرناطة، الَّتي كانت رمزاً للمملكة الإِسلاميَّة الذَّاهبة.

وفرضت إسبانيا أقصى الإِجراءات التَّعسُّفيَّة على المسلمين في محاولةٍ لتنصيرهم، وتضييق الخناق عليهم؛ حتَّى يرحلوا عن شبه الجزيرة الأيبيريَّة.

نتيجةً لذلك لجأ المسلمون ـ المورسكيون ـ إِلى القيام بثوراتٍ، وانتفاضاتٍ في أغلب المدن الإسبانية والَّتي يوجد بها أقليَّةٌ مسلمةٌ، وخاصَّة غرناطة، وبلنسية، وأخمدت تلك الثَّورات بدون رحمةٍ، ولا شفقةٍ من قبل السُّلطات الإسبانيَّة الَّتي اتُّخذت وسيلةً لتعميق الكره والحقد للمسلمين، ومن جهةٍ أخرى كان من الطَّبيعي أن يرنو المورسكيون بأنظارهم إِلى ملوك المسلمين في المشرق، والمغرب لإِنقاذهم، وتكرَّرت دعوات وفودهم، ورسائلهم إِليهم للعمل على إِنقاذهم ممَّا يعانونه من ظلمٍ، وخاصَّةً من قبل رجال الكنيسة، ودواوين التَّحقيق الَّتي عاثت في الأرض فساداً، وأحلت لنفسها كلَّ أنواع العقوبات، وتسليطها عليهم.

وكانت أخبار الأندلس قد وصلت إِلى المشرق، فارتجَّ لها العالم الإِسلاميُّ. وبعث الملك الأشرف بوفودٍ إِلى البابا، وملوك النَّصرانيَّة يذكِّرهم بأنَّ النَّصارى الذين هم تحت حمايته يتمتَّعون بالحرِّيَّة في حين: أنَّ أبناء دينه في المدن الإسبانيَّة يعانون أشدَّ أنواع الظُّلم، وقد هدَّد باتباع سياسة التَّنكيل، والقصاص تجاه الرَّعايا المسيحيين؛ إِذا لم يكف ملك قشتالة، وأراغون عن هذا الاعتداء، وترحيل المسلمين عن أراضيهم، وعدم التَّعرض لهم، وردِّ ما أخذ من أراضيهم. ولم يستجب البابا، والملكان الكاثوليكيَّان لهذا التَّهديد من قبل الملك الأشرف، ومارسوا خطَّتهم في تصفية الوجود الإِسلامي في الأندلس، وجُدِّدت رسائل الاستنجاد لدى السُّلطان العثماني بايزيد الثَّاني، فوصلته هذه الرِّسالة: (..الحضرة العليَّة، وصل الله سعادتها، وأعلى كلمتها، ومهَّد أقطارها، وأعزَّ أنصارها، وأذلَّ عداتها! حضرة مولانا، وعمدة ديننا، ودنيانا السُّلطان الملك النَّاصر، ناصر الدُّنيا والدِّين، سلطان الإِسلام والمسلمين، قامع أعداء الله الكافرين، كهف الإِسلام، وناصر دين نبيِّنا محمَّد عليه السَّلام، محيي العدل، ومنصف المظلوم ممَّن ظلم، ملك العرب والعجم، والتُّرك والدَّيلم، ظلُّ الله في أرضه، القائم بسنَّته، وفرضه، ملك البرَّين، وسلطان البحرين، حامي الذِّمار، وقامع الكفَّار، مولانا، وعمدتنا، وكهفنا، وغيثنا، لا زال ملكه موفور الأنصار، مقروناً بالانتصار، مخلَّد المآثر، والآثار، مشهور المعالي والفخار، مستأثراً من الحسنات بما يضاعف به الأجر الجزيل في الدَّار الآخرة، والثَّناء الجميل، والنَّصر في هذه الدَّار، ولا برحت عزماته العليَّة مختصَّةً بفضائل الجهاد، ومجرِّدةً على أعداء الدِّين من بأسها ما يروي صدور السَّحر، والصِّفاح، وألسنة السِّلاح باذلةً نفائس الذَّخائر في المواطن الَّتي تألف فيها الأخاير مفارقة الأرواح للأجساد، سالكةً سبيل السَّابقين الفائزين برضا الله، وطاعته يوم يقوم الأشهاد).

وكانت ضمن الرِّسالة أبيات قصيدةٍ يمدح صاحبُها فيها الدَّولةَ العثمانيَّة والسُّلطان بايزيد، ويدعو للدَّولة بدوام البقاء، وقد وصفت القصيدة الحالة الَّتي يعاني منها المسلمون، وما تعرَّض له الشُّيوخ والنِّساء من هتكٍ للأعراض، وما يتعرَّض له المسلمون في دينهم، وقد كانت هذه هي رسالة الاستنصار الّتي بعث بها المسلمون في الأندلس لإنقاذ الموقف هناك، وكان السّلطان بايزيد يعاني من العوائق الّتي تمنعه من إرسال المجاهدين، بالإضافة إلى مشكلة النّزاع على العرش مع الأمير «جم» وما أثار ذلك من مشاكل مع البابويّة في روما وبعض الدّول الأوربيّة، وهجوم البولنديّين على مولدافيا، والحروب في ترانسلفانيا، والمجر، والبندقيَّة، وتكوين التَّحالف الصَّليبي الجديد ضدَّ الدَّولة العثمانيّة من البابا جويلس الثَّاني وجمهورية البندقيَّة، والمجر، وفرنسا، وما أسفر عنه هذا التَّحالف من توجيه القوّة العثمانيَّة لتلك المناطق، ومع ذلك قام السّلطان بايزيد بتقديم المساعدة، وتهادن مع السّلطان المملوكي الأشرف لتوحيد الجهود من أجل مساعدة غرناطة، ووقَّعا اتفاقاً بموجبه يرسل السُّلطان بايزيد أسطولاً على سواحل صقلِّية باعتبارها تابعةً لمملكة إسبانيا، وأن يجهّز السّلطان المملوكي حملاتٍ أخرى من ناحية أفريقية.

وبالفعل أرسل السُّلطان بايزيد أسطولاً عثمانيَّاً تحوَّل إلى الشّواطئ الإسبانيَّة، وقد أعطى قيادته إلى كمال رايس الذي أدخل الفزع، والخوف، والرّعب في الأساطيل النَّصرانية في أواخر القرن الخامس عشر، كما شجَّع السُّلطان بايزيد المجاهدين في البحر بإبداء اهتمامه، وعطفه عليهم، وكان المجاهدون العثمانيُّون قد بدؤوا في التَّحرك لنجدة إخوانهم المسلمين، وفي نفس الوقت كانوا يغنمون الكثير من الغنائم السَّهلة الحصول من النَّصارى، كذلك وصل عددٌ كبيرٌ من المجاهدين المسلمين أثناء تشييد الأسطول العثمانيّ، ودخلوا في خدمته. بعد ذلك أخذ العثمانيُّون يستخدمون قوَّتهم البحريَّة الجديدة في غرب البحر المتوسط بتشجيع من هؤلاء المجاهدين، وهذا الذي كان في وسع السُّلطان بايزيد الثَّاني فعله لاشكَّ أنَّ تصرفات «جم» المشينة كانت سبباً أعاق حركة التوسُّع الإقليمي، وعرقلت السُّلطان بايزيد عن العمل الخلاق، وأصبح اهتمام السُّلطان منصبّاً على تعقُّب أخبار أخيه، والعمل على التخلص منه بكلِّ الوسائل.

وعلى العموم، فقد استطاع بايزيد أن يحرز نصراً بحرياً على البنادقة في خليج لبانتو ببلاد اليونان عام 1499م/905هـ وفي العام التَّالي استولى على مدينة لبانتو، وباستيلاء العثمانيين على مواقع البنادقة في اليونان، أقام البابا (إِسكندر السَّادس)ـ بناءً على طلب البنادقةـ حلفاً ضدَّ العثمانيِّين مكوَّناً من فرنسا، وإسبانيا. وتعرَّض العثمانيُّون لهجوم الأساطيل الثلاثة: الفرنسي، والإِسباني، والبابوي، واستطاعت الدَّولة العثمانيَّة أن تعقد صلحاً مع البنادقة.

وكان بايزيد ميَّالاً للسَّلام، ونشطت العلاقات الدِّبلوماسيَّة بين الدَّولة العثمانيَّة وأوربة، وكانت من قبل مقصورةً على البلاد الواقعة على حدودها، ولكنَّها أقيمت بينها وبين البابوية، وفلورنسا، ونابلي، وفرنسا، وعقد صلحاً مع البنادقة، والمجر.


المراجع:

1- د. علي محمد الصلابي. الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م ص. ص  (131- 140).

2- د. إِسماعيل ياغي، الدَّولة العثمانيَّة في التاريخ الإِسلامي الحديث، مكتبة العبيكان، الطَّبعة الأولى 1416هـ/1996م، ص.ص (50-51).

3- د. عبد اللَّطيف عبد الله دهيش، قيام الدَّولة العثمانيَّة، الطَّبعة الثَّانية، 1416هـ/1995م، مكتبة ومطبعة النَّهضة الحديثة، مكَّة المكرَّمة.، ص (57).

4- يوسف آصاف، تاريخ سلاطين آل عثمان، تحقيق بسام عبد الوهاب الجابي، دار البصائر، الطَّبعة الثَّالثة 1405هـ/1985م، ص (63 إلى 65).

 5- د. زكريَّا سليمان بيُّومي، قراءة جديدة في تاريخ العثمانيِّين، الطَّبعة الأولى 1411هـ/1991م، عالم المعرفة، ص (66).

6- رسالة من مسلمي غرناطة للسّلطان سليمان عبد الجليل التّميمي، المجلة المغربيّة العدد: (3) ص (38).

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس