محمد قدو أفندي أوغلو - خاص ترك برس

لم يكن لإيران خيارات كثيرة لمواجهة الحصار الأمريكي عليها مثلما لم تكن أمام قيادتها الوقت الكافي للمناورة والاستعداد للوقوف أمام حزمات العقوبات المتتالية ضدها فكل يوم يمر تحت الحصار يزداد الاقتصاد تدهورًا وتنهار قيمة العملة الوطنية.

التجربة العراقية السابقة والتي ابتليت بعقوبات مماثلة مع فروقات كبيرة في قدرات الدولتين الاقتصادية والفنية والجغرافية، فحيث لم يكن للعراق منافذ بحرية إطلاقًا بعد غلق الميناء الوحيد من قبل أمريكا وباقي الدول المتحالفة، كذلك خلو الخزينة العراقية من العملة الصعبة نتيجة منع تصدير النفط، إضافة إلى ندرة المواد الغذائية وشحّ الاحتياجات الإنسانية الضرورية بسبب الحصار وتوقف معظم المعامل الإنتاجية الهامة في البلاد.

إن الوضع الإيراني يختلف كليًا عن العراق بعدة عوامل أهمها:

أولًا: أن العقوبات الاقتصادية ضد إيران هي من طرف دولي واحد رغم تأثيرها الشديد بسبب امتناع بعض الدول عن مجاراة أمريكا وخصوصًا في بدايات الأزمة بعد اتفاق دول الخمسة زائد واحد.

ثانيًا: تمتلك إيران منافذ بحرية كثيرة ليس بالاستطاعة مراقبتها بدقة نظرًا لطول سواحلها مما يؤثر بشكل مباشر على إضعاف تأثير العقوبات والحصار المفروض عليها.

ثالثًا: وجود حدود دولية مع دول لا تحبذ ولا تؤيد مسألة العقوبات الاقتصادية وربما ستكون تلك الحدود عاملًا هدامًا للحصار وللعقوبات الاقتصادية فربما تكون العقوبات التي تحاول أمريكا فرضها والتي تسميها بالقوية بعد إسقاط الطائرة الأمريكية هي التي ستقصم ظهر البعير.

رابعًا: إن أي تهديد للملاحة في الخليج العربي معناه إصابة قلب العالم النابض بأضرار تؤثر بشكل فوري على سوق النفط العالمي وربما تقلب موازين الاقتصادات في الدول الصناعية وكذلك الدول التي تعتمد على النفط من دول الشرق الأوسط.

ومهما يكن من أمر فإن القيادة الإيرانية لن تنتظر إطلاقًا الوقوع أو السقوط المدوي ولن تنتظر وصول جحافل القوات الأمريكية لاحتلالها كما حدث مع العراق وعليه فإن إيران والتي هي الآن بوضع القطة المحاصرة من كل جانب ستحاول بكل قوة إيذاء ومهاجمة كل من حولها لجر أمريكا لمعركة محدودة.

إن خيار إيران الحقيقي الآن هو سحب أمريكا بكل الطرق المتيسرة إلى المواجهة المباشرة المحدودة على الأقل حتى تبقى قضيتها مثيرة بصورة دائمة، مع تيقنها إلى تحذير روسيا والصين وفرنسا من توسيع نطاق الحرب، ويعني هذا بالتأكيد قيام الدول المذكورة بالسعي إلى إحياء الاتفاقية السابقة والتي تسمى باتفاقية خمسة زائد واحد التي أبرمت في عهد الرئيس الأمريكي أوباما.

وهنا لا بد من الإجابة على سؤال محدد ألا وهو كيف يتم استدراج أمريكا إلى مفاوضات وربما إلى إحياء اتفاقية الخمسة زائد واحد بعد حصول مناوشات محدودة واستفزازات إيرانية؟

تدرك إيران الحل وتمتلك خاصية ومقومات استدراج أمريكا على طاولة المفاوضات صاغرة وكذلك تحويل ذلك العدو الظاهر للعيان إلى صديق مخلص قديم حيث ما الحب إلا للحبيب الأول وخصوصا أن الرئيس الامريكي يتصرف كتاجر بكل صراحة يشبه إلى حد بعيد زعيم مافيا عالمي.

من البديهي القول إن إيران تمتلك إمكانات مادية هائلة وفي الوقت نفسه تحتاج إلى إعادة إعمار في كل مفاصل الدولة مع احتياجها الشديد إلى بناء المصانع المتطورة وإدامة البنى التحتية الخدمية لأكثر من ثمانين مليون نسمة، وبمعنى أدق فإن إيران ستتحول في يوم ما بعد رفع الحصار الأمريكي عليها إلى ورشة كبيرة تشمل كل مساحة إيران الكبيرة وباستطاعتها استيعاب آلاف الشركات المتخصصة العملاقة لإعادة ترتيب بيتها ووضعها الاقتصادي النفطي والصناعي والزراعي.

إن هذه النقطة بالذات هي التي تقض مضجع الرئيس ترمب في كل حين، حيث لاحظ ترمب رجل الأعمال أن الدول قد سارعت للوصول إلى طهران للحصول على اتفاقية أو عقود واستثمارات بعيد التوقيع على الاتفاقية الدولية، في حين تأخرت الولايات المتحدة من خلال شركاتها بالوصول إلى طهران للحصول على استثمارات وعقود دون غيرها من الدول مع العلم أن الرئيس أوباما قد حض على الإسراع في التوقيع على الاتفاقية.

إذن فمن المؤكد أن الورقة الاقتصادية هي الورقة الوحيدة والناجعة في كسب الخصوم، وخصوصا في حال كون الخصم تاجرًا ويفكر بالدرجة الأساس بجلب رؤوس الأموال، فإن هذه الفقرة الحيوية ستكون هي محتوى الرسائل المتبادلة بين قيادات البلدين عبر الوسطاء مستقبلًا، وهي التي كانت دومًا في مخيلة الرئيس الأمريكي لبدء حوار شامل مع إيران.

ولكن الرئيس الامريكي متطلع إلى أبعد من ذلك، ولا يرغب في خسارة الدعم الكبير التي يتلقاه من الدول الخليجية نتيجة التهديدات الإيرانية لها وادعاء الولايات المتحدة بأنها الحامية لها من تلك التهديدات (لدرجة التصور بأن هناك اتفاقيةً سريةً بين إيران والولايات المتحدة تعتمد في الأساس على ابتزاز الدول الخليجية)، وربما فإن أمريكا ستتريث في إعلان أي اتفاق مع إيران قبل أن تضمن حصتها بالكامل من النفط الخليجي.

وسواء كانت تلك التحركات والابتزازات والمناوشات وربما العمليات العسكرية المحدودة لعبةً متقنةً بين الإيرانيين والأمريكان كما يحلو للبعض الترويج لها، أو أن تلك الأزمة حقيقيةٌ مصيريةٌ تهم معظم دول الشرق الأوسط والدول العربية، فإننا أمام امتحانٍ عسيرٍ يهدد مستقبلنا في حال حصول نزاعٍ مسلحٍ شامل وحصول نتائج كارثية.

وهناك جملة من الأمور البينية والتي يجب أن تتداركها الدول العربية والإسلامية من الآن ومستقبلًا وهي:

- إن الدول العربية بصورة عامة مدعوة إلى رص الصفوف من جديد والقضاء على الخلافات وتجاوزها بصورة شاملة حتى لا تكون فريسةً سهلةً أمام الطامعين لها جراء تفرقها وتمزق قوتها.

- تدرك معظم الدول أن نجاح الحصار الأمريكي ضد إيران يعني المضي بهذا النهج الذي بدأ بالعراق مرورًا بإيران وسيستمر ضد كل دولة لا ترغب في أن تكون داخل خيمة الغرب وأمريكا على وجه التحديد.

- تفرز نتائج الحصار مسألة القطب الواحد من جديد وتسلطه بكل قوة على مجمل قرارات العالم المصيرية.

- وتفرز أيضًا ضعف الإرادة لدى كل من روسيا وفرنسا وإنكلترا والصين أمام الغول الأمريكي عند إصرار أمريكا على فرض إرادتها وقوانينها على أية دولة أخرى.

- من البديهي ان كل الدول متهيئة وربما مرشحة للابتزاز من جديد أو مرشحة لعقوبات اقتصادية وخصوصا الدول العربية والإسلامية، وملفات الاتهام موجودة في رفوف الإدارات الفدرالية وتحت متناول اليد وتنتظر فقط التوقيع على العمل بها.

ورغم كل هذه المظاهر والحشود في المنطقة فإن من الطبيعي أن ندرك أن الولايات المتحدة عندما تنوي على عمل معين فإنها تبعد الأنظار عن تلك العملية وتحول آلة الإعلام إلى نقطةٍ بعيدةٍ جدًا.

والسؤال...

أين هي تلك النقطة؟

وأين هو الهدف الحقيقي؟

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس