د. علي الصلابي - خاص ترك برس

تولَّى السلطان العثماني سليم الثالث السُّلطة بعد وفاة عمِّه عبد الحميد الأوَّل عام 1203هـ/1788م وبدأت مرحلةٌ جديدةٌ من مراحل الحرب بين الدَّولة العثمانيَّة، وأعدائها، شرع في إحياء الرُّوح المعنويَّة في نفوس جنده، واعتمد على تاريخ الدَّولة العثمانيَّة، وما قامت به من أعمالٍ بطوليَّة، ففي مراسم توليه عرش الدَّولة قام السُّلطان بإِلقاء خطبةٍ حماسيَّة أمام قادة الدَّولة أشار فيها بما حقَّقته الجيوش العثمانيَّة من انتصاراتٍ في الماضي على أعدائها، وتكلَّم عن سبب هزائمهم المتأخِّرة أمام أعدائهم، وبيَّن أنَّها بسبب ابتعادهم عن دينهم، وعدم اتِّباع كتابهم، وسنَّة نبيِّهم، وحثَّهم على ضرورة التَّضحية، والجهاد ضدَّ أعدائهم، والاعتماد على الله في كلِّ تصرُّفاتهم، وطاعة أولي الأمر، ومقاومة الأعداء الَّذين استولوا على أراضي المسلمين، وقتلوا، وسجنوا الآلاف منهم حتَّى تستعيد الدَّولة بلاد القرم منهم.

إصرار السلطان  على الجهاد:

كانت الآمال عند السُّلطان سليم الثالث قد جعلته يرفض مساعي الصُّلح الَّتي قام بها سفراء إسبانيا، وفرنسا، وبروسيا، وطلب من الصَّدر الأعظم يوسف باشا اتِّخاذ التَّرتيبات اللاَّزمة للتَّصدِّي لأعداء الدَّولة.

لقد أدرك السُّلطان المأساة الَّتي يعيشها شعبه من جرَّاء الهزائم المتوالية على الدَّولة العثمانيَّة، ولكي يخفِّف من حدَّة الغضب، والنُّفور، رفض السُّلطان مساعي الصُّلح، وقرَّر التوجُّه بنفسه على رأس جيشٍ نحو الدَّانوب،وقام بزيادة مرتَّبات الجند، وصرف مكافآتٍ إِضافيةً تزيد عمَّا كانت عليه في عهد سلفه.

ورأى السُّلطان العثماني ضرورة تقوية مركزه بتعيين صديقه القديم حسين باشا الكريدلي قائدًا للأسطول العثماني، ونقل خدمات القائد السَّابق حسن باشا إِلى قيادة الجيش البرِّيَّة في مُولدافيا، وتعيينه حاكماً على مدينة «إِسماعيل» وتكليفه في نفس الوقت بإِعادة أوزي، والتوجُّه بطريق البرِّ نحو القرم.

وكان هذا التَّغيير في مناصب قيادة الجيش له أسبابه، فمن جهةٍ كان القائد حسن باشا على خلافٍ مع الصَّدر الأعظم يوسف باشا، عندما رأى: أنَّ إِعلان الحرب على روسيا لم يكن في وقته المناسب، وأنَّهم بحاجةٍ إِلى الاستعداد التَّامِّ قبل دخول الحرب، ومن جهةٍ أخرى فإِنَّ إِخفاق الجيش العثماني بقيادة حسن باشا في استعادة «أوزي» وعودته قبل الوقت المحدَّد قد أثَّر على نفسية السُّلطان، فرأى ضرورة تغيير القيادة، ولكنَّ السَّبب المعقول، والأقرب إِلى المنطق: أنَّ القائد الجديد كان من أصدقاء السُّلطان، ممَّا يجعل تعيينه في منصب الصَّدر الأعظم سنداً قويَّاً، وتقويةً لمركزه أمام أعدائه في الدَّاخل والخارج.

أصبح السُّلطان سليم في موقف يحتِّم عليه المواجهة مع أعدائه، وممَّا قام به في هذا الشَّأن تكليفه لصدره الأعظم يوسف باشا بالاهتمام بإِقليم ولاشيا، وحماية بلغراد من أيِّ هجومٍ في منطقة الكوبان بهدف إِثارة تتار القوقاز ضدَّ روسيا، ومساعدة الدَّولة العثمانيَّة لاستعادة بلاد القرم.

تراجع الجيوش العثمانيَّة:

عزَّزت القوَّات الرُّوسيَّة، والنِّمساوية مواقعها، واستنفرت جيوشها، وأصبحت قوَّاتهم قريبةً من بلغراد مولدافيا، ولم يستطع الصَّدر الأعظم من إبعاد الأعداء عن بلغراد، واضطرَّ السُّلطان لعزله، وعيَّن حسن باشا بدله، لقد مني يوسف باشا بهزائم متتالية على يد القائدين الرُّوسي «سواروف»، والنِّمساوي «كوبرق».

كان السُّلطان سليم الثالث حريصاً على استعادة القرم، وتحقيق النَّصر على أعدائه، ورأى البدء بإِعادة بناء الجيش، وأصدر أوامره للصَّدر الأعظم باتِّخاذ اللازم نحو تطوير الجيش، ومتابعة الجهود في سبيل الإِصلاح، وإِرسال حملةٍ عسكريَّةٍ إِلى ساحة القتال، ورأى السُّلطان دعم هذه التوجُّهات بعقد معاهدة صداقةٍ مع السُّويد، تلتزم فيها الدَّولة العثمانيَّة بدفع مبالغ نقديَّة سنويَّة محدَّدة لمدة عشر سنوات مقابل أن تقاوم السُّويد روسيا من النَّاحية الشَّمالية، واتفقتا أيضاً على مواصلة الحرب معاً ضدَّ روسيا، وألا يقوم أيٌّ منهما بعقد معاهدة سلام مع دولةٍ أخرى دون علم الثَّانية.

موقف الدُّول الأوربيَّة من هذه المعاهدات:

كانت مواقف الدُّول الأوربيَّة من هذه المعاهدات متباينةً، فبروسيا رحَّبت بهذه المعاهدة؛ وذلك لأنَّها كانت دائماً تحثُّ السُّلطان سليم الثالث على مواصلة الحرب خوفاً من أن تكون هي الأخرى من فرائس روسيا. وفرنسا لم تؤيِّد عقد المعاهدة؛ لأنَّها على هذا الوضع لا تخدم السِّياسة الفرنسيَّة، وأهدافها، أمَّا بريطانيا، فهي كما يقول الشَّاعر:

يُعْطِيْكَ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ حَلاوَةً           وَيَرُوْغُ مِنْكَ كَمَا يَرُوْغُ الثَّعْلَبُ

فهي وإِن رضيت بالمعاهدة، ورغبت في بقاء الدَّولة العثمانيَّة قويَّةً، إِلا أنَّها لا تفضِّل الوقوف جنباً إِلى جنب مع الدَّولة العثمانيَّة ضدَّ روسيا، أو النِّمسا، ولا تفضِّل تقديم أيِّ نوعٍ من الدَّعم.

هذه المواقف الأوربيَّة يجب ألا تستغربها، فهي طبيعيَّةٌ؛ لأنَّ علاقاتها مع الدَّولة العثمانيَّة علاقات مصالح، ومطامع فقط، وإِذا سعت بعض الدُّول الأوربيَّة إِلى بقاء الدَّولة العثمانيَّة قويَّة الجانب؛ فذلك ليس حباً فيها، ولكنَّه هدفٌ لخدمة أغراض سياسيةٍ تتعلَّق بتوازن القوى في القارة الأوربيَّة، وتتعلَّق بالرَّغبة في الحفاظ على مصالحهم الاقتصاديَّة، سواءٌ في داخل الدَّولة العثمانيَّة، أو خارجها، وعلى الرَّغم من تأثير هذه المواقف الأوربيَّة على الاتِّجاه العامِّ لسياسة الدَّولة العثمانيَّة وتقدُّمها في المناطق الأوربيَّة، لم ييأس السُّلطان العثمانيُّ، وكان يحدوه الأمل بنجاح المهمَّة في حال توجيه الجيش، فأصدر أمره بتحريك القوَّات العثمانيَّة عبر البغدان، والأفلاق؛ حتَّى وصلت مقدِّمات جيشه إِلى نهر «رمينيك» عند حدود النِّمسا، وهناك حدث ما لم يكن في الحسبان، حيث تمكَّن الجيشان الرُّوسي، والنِّمساوي من مباغتة الجيش العثماني على غفلةٍ، وانتصرا عليه، وسمِّيت تلك المواجهة بمعركة «يوزا» أو «رمينيك» نسبة إِلى النَّهر الَّذي وقعت عنده المعركة.

كان لهذه المعركة آثارها السَّيِّئة على الدَّولة العثمانيَّة، فلم يعد هناك فرصةٌ لتنظيم الجيش، فتوالت الهزائم على الدَّولة العثمانيَّة، وتزحزحت إِلى الوراء باتِّجاه شرق الدَّانوب، وأعطت النِّمساويين الفرصة لفكِّ حصار بلغراد، وفتح الطَّريق لقوَّات الحلفاء، وطرد العثمانيِّين من أوربة.

لقد كانت الحملات الصَّليبيَّة على الأقاليم العثمانيَّة خلال الشُّهور الأخيرة من عام 1789م من أفظع ما شهدته المناطق الحدوديَّة بين الطَّرفين، وتوالت الأحداث، واستمرَّت الهزائم، وضعفت الدَّولة العثمانيَّة، ومع ظهور الثَّورة الفرنسيَّة رأت الدُّول الأوربيَّة ضرورة التوصُّل إِلى معاهدةٍ مع الدَّولة العثمانيَّة لجمع الشَّمل الأوربيِّ أمام الحركة النابليونيَّة التَّوسُّعيَّة، والأطماع الفرنسيَّة الَّتي أنستهم أطماعهم في أراضي الدَّولة العثمانيَّة كمرحلةٍ أولى، ونجحت الدُّول الأوربيَّة في وساطتها، وتمَّ عقد معاهدة «زشتوي المشهورة» في 22 من ذي الحجَّة عام 1205 هـ الموافق 4 من أغسطس 1791م.

لمَّا تحقَّق لهم ذلك بقي عليهم المرحلة الثَّانية، وهي وقف الحرب العثمانيَّة الرُّوسيَّة، ودون تحقيق ذلك سيكون موضوع المناطق في أوربة معرَّضاً للأخطار بسبب المغامرات النابليونيَّة، أو بسبب تفوُّق روسيا على الدَّولة العثمانيَّة، وبالتَّالي تسبِّب تهديداً لأوربة.

وكان وضع الدَّولة العثمانيَّة بسبب الأحداث الَّتي تعرَّضت لها له أثره على قوَّتها، وعلى سير حملاتها نحو أوربة، وجعلتها في موقفٍ لا يمانع من الموافقة على أيِّ أمرٍ قد يؤدي إِلى السَّلام، وبأيِّ شروط، وكانت تلك الأحداث مساعدةً في مهمَّة الوسطاء، فتوصَّلوا بعد مفاوضاتٍ مع كلٍّ من روسيا والدَّولة العثمانيَّة، إِلى عقد معاهدة سلام بينهما في مدينة ياش، وذلك بتاريخ 15 جمادى الأولى عام 1206هـ، الموافق التَّاسع من شهر يناير عام 1792م.

أهم بنود معاهدة ياش:

1. تبادل أسرى الحرب، والسَّماح للرَّعايا الَّذين يعيشون خارج دولتهم بسبب الأزمات السِّياسيَّة، بالعودة إِلى بلدانهم الأصليَّة، أو البقاء حسب رغباتهم.

2. تتنازل الدَّولة العثمانيَّة لروسيا عن ميناء أزوف، وبلاد القرم، وشبه جزيرة طمان، وبلاد القويان، وبساربيا، والأقاليم الواقعة بين نهري بجد، والدِّينستر، ويكون النَّهر الأخير حداً فاصلاً بين الدَّولتين.

3. تُرجع روسيا للدَّولة العثمانيَّة مناطق: البغدان، وأكرمان، وكيلي، وإِسماعيل مقابل أن تقوم الدَّولة بإِعفاء رعايا البغدان من الضَّرائب، وعدم مطالبة روسيا بتعويضات حرب، أو ما شابه ذلك.

4. يمنع الباب العالي رعايا دولته من الغارات على محافظتي: تفليس، وكاتالينا الرُّوسيتين، وعلى السُّفن الرُّوسية في البحر المتوسط، وعليه القيام بدفع تعويضاتٍ لأيِّ أضرارٍ تحدث بعد ذلك من قبل رعايا الدَّولة العثمانيَّة.

وحققت تلك المعاهدة وقف الحرب الرُّوسية العثمانيَّة، وتحقَّقت أهداف الدُّول الأوربيَّة، وأهمها إِيقاف الحرب في زمنٍ كانت أوربة تعيش فيه انطلاق الثَّورة النَّابليونيَّة، وتخشى تطوُّرها على أنظمة الحكم فيها، وهكذا ضاعت آمال الدَّولة العثمانيَّة، وضاعت معها تلك المناطق الَّتي كانت تحت نفوذها، حتَّى أصبح البحر الأسود تحت رحمة العلم الرُّوسي وأصبحت موانئه العثمانيَّة مثل أزوف، وأوديسا، وسيفاستبول قواعد للأسطول الرُّوسي، وأصبحت مصبَّات الأنهار العظيمة مثل الدَّانوب، وبج، والدنيستر، وبروت، وحركتها الملاحيَّة تحت تصرُّف روسيا.

الإِصلاح الدَّاخلي والمعارضة:

بعد هدوء القتال انصرف سليم الثَّالث للإِصلاحات الدَّاخلية، فبدأ بتنظيم الجيش للتخلُّص من الإِنكشاريَّة الَّذين أصبحوا سبب كلِّ فتنةٍ، واتَّجه نحو تقليد أوربة الَّتي تجاوزتهم كثيراً، فاهتم بصناعة السُّفن، والأسلحة خاصَّةً المدافع على الطَّريقة الفرنسيَّة، وشهد عهده بدايات التَّعليم العسكري الغربي.

ونظراً لإِقدام السُّلطان سليم على الإِصلاحات وإِنشاء فرقة النِّظام الجديد؛ فقد أثار جنود الإِنكشاريَّة، وساندهم الأعيان ضدَّ النظام الجديد، ورغم أنَّ السُّلطان أصدر أمراً بإِلغاء النِّظام العسكري الجديد، إِلا أنَّ الثُّوار قرَّروا عزل الخليفة، وخلعه من الحكم، وتولَّى بعده ابن عمِّه مصطفى الرَّابع الحكم مرشح المحافظين؛ الذي قام بإصدار قرار بقتله، وبالفعل لقى السلطان سليم الثالث مصرعه ضرباً بالسيف.

إِنَّ دراسة تاريخ السُّلطان سليم الثَّالث تظهر لنا: أنَّه كان حريصاً على إِحياء فريضة الجهاد كما كانت على عهد أجداده، وآبائه، فهل هذا هو السَّبب وراء المؤامرة الَّتي أطاحت به في جمادى الأولى عام 1223هـ/28 يونيو 1808م؟


مراجع:

- علي محمّد الصلابي. الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م، ص (260: 265).
- إِسماعيل ياغي، الدَّولة العثمانيَّة في التاريخ الإِسلامي الحديث، مكتبة العبيكان، الطَّبعة الأولى 1416هـ/1996م، ص (127).
- إِسماعيل سرهنك، تاريخ الدَّولة العثمانيَّة، دار الفكر الحديث، 198م، ص(235).
- عبدالرحمن شرف، تاريخ دولت عثمانية، استانبول، الطبعة الثانية،  1315هـ، ص(120، 211).
- يوسف علي الثَّقفي، موقف أوربة من الدَّولة العثمانيَّة، الطَّبعة الأولى، 1417هـ، ص(68 : 74).

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس