احسان الفقيه - خاص ترك برس

عام 1514م، ضُبط قومٌ يشربون القهوة لأول مرة حول الحرم المكّي، وتمّ رفع محضر بذلك إلى السلطة الإدارية في مصر لاتخاذ ما تراه مناسبا حيال هذا المشروب الجديد الذي انتقل حديثا من الأديرة الصوفية في اليمن، وصار محلا للخلاف الفقهي بين العلماء المسلمين آنذاك ليطلق بعض المؤرخين على ذلك الحدث: (واقعة مكة)..

* أخذت القهوة رحلتها من الحجاز إلى إسطنبول، ويُقال أن أجداد قبيلة الأورومو في أثيوبيا هم أول من اكتشف الأثر المنشّط لحبوب القهوة او شجرة البُن في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي لتصل بعدها الى أرمينيا وبلاد فارس وتركيا وشمال افريقيا، وذكر المؤرخ العثماني إبراهيم بجوي عام 1555م أن القهوة غزت مقاهي الأتراك عبر رجلين من أصل شامي.

هذه المقدمة التي قد لا تعنيكم في شيء، والتي قد لا تجدون لها علاقة بمضمون المقال، جعلتني أنظر (بعفوية) إلى التقارب التركي السعودي القائم ..

ومما جعلني أُمعن النظر في هذا الشأن:

ذلك المشهد الذي أثار انتباهي وكثيرين خلال زيارة أردوغان الأخيرة للسعودية، وزيارة الرئيس التركي للمسجد النبوي، وتلك النظرة التي لاحت من عينيه تجاه قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

ساعتها انتابني شعور (هو ابن الحدث بلا شك) من أن حنين الماضي يداعب كيان الرجل، وكأن شيئا غائبا قد عاد إليه، كأنه يسترجع ذكرى الرابطة القديمة بين أجداده وبين تلك البقاع المقدسة وأهلها الطيبين.

* دعونا نتخطى حواجز الزمن إلى الماضي، ونلقي نظرة على:

الجذور التاريخية للعلاقات السعودية التركية

منذ أن أسس السلطان عثمان بن أرطغرل الدولة العثمانية عام 699 هجرية، انتهج سياسته التوسعية التي بناها على مفهوم الجهاد، لتمتد الإمبراطورية العثمانية من بعده بصورة قوية متتابعة حتى وصلت جيوشها إلى أسوار فيينا عاصمة النمسا.

* أتدرون لِمَ لمْ يتم الفتح وعادت الجيوش العثمانية دون الاستيلاء على فيينا؟

* سلوا الفرس الإيرانيين عن ذلك.. سيخبرونكم أن أجدادهم الصفويين كانوا السبب، قاموا بهوايتهم المفضلة (الطعن في الظهر)، واجتاحوا بغداد، فاضطر السلطان العثماني لسحب جيشه لإنقاذ البلاد من خطرهم، ولولا ذلك لكانت النمسا قطعة إسلامية في أوروبا.

الخطر البرتغالي:

في أوائل القرن العاشر الهجري، وجدت الدولة العثمانية نفسها أمام تحدٍّ جديد، تمثل في التصدي للقوات البرتغالية التي باتت تشكل خطرا على المقدسات الإسلامية بعد دورانها حول طريق رأس الرجاء الصالح وغزو البلاد الإسلامية.

وكان لزاما على الدولة العثمانية حتى تتمكن من مواجهة البرتغاليين، أن تفرغ من الدولة الصفوية التي أرادت بسط نفوذها الطائفي في آسيا الوسطى، ومن المماليك أيضا في مصر، والذين رفضوا التحالف مع العثمانيين في مواجهة الصفويين.

وبالفعل استطاع العثمانيون في عهد السلطان سليم الأول، من دحر المماليك في موقعتي مرج دابق والريدانية، ودخول القاهرة عام 923 هجرية الموافق 1517 ميلادية، وقبلها بثلاثة أعوام تمكنوا من وقف خطر الصفويين وهزيمتهم في معركة جالديران عام 920 هجرية.

ترتب على ذلك تصدي العثمانيين للقوى البرتغالية وتطهير ساحل الجزيرة العربية والدفاع عن المقدسات الإسلامية، بالإضافة لضم العثمانيين دويلات في شمال إفريقيا وحمايتها من الخطر الإسباني.

ورغم أن الدولة العثمانية لم تتمكن من طرد البرتغاليين من قواعدهم بالمحيط الهندي ومنطقة الخليج العربي، إلا أنها منعت توغل القوات البرتغالية في الحجاز، وأحبطت المشروع الصليبي البرتغالي الذي كان يهدف إلى السيطرة على المقدسات الإسلامية.

* لطالما قلتُ ولازلت أكرر: هي حرب على الإسلام وليست وليدة اليوم مهما نعق الناعقون من بني قومي من المهووسين بكلّ بعيد.. ممن يحاولون تجميل الصورة الغربية وإقصاء عنصر الدين عن الصراع..

لقد كان البرتغاليون يسعون لدخول البحر الأحمر والتوغل في إقليم الحجاز واحتلال ميناء جدة، ثم ينطلقون بعدها لاقتحام المسجد الحرام وهدم الكعبة ونبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، ثم التوجه بعد ذلك للاستيلاء على بيت المقدس، لتكون المقدسات الإسلامية في حوزتهم.

وقد تم إحباط محاولتين للسفن البرتغالية في اجتياح ميناء جدة، كانت الأولى منهما عام 923 هجرية الموافق 1517م، والثانية بعدها بثلاثة أعوام (926 هجرية/ 1520م).

كان من الطبيعي أن تتجه أنظار الدولة العثمانية إلى أرض الحجاز، نظرا لمكانتها الدينية بما حوته من مقدسات، الأمر الذي يدعم نفوذ العثمانيين حال قيامهم بضم الحجاز.

وتناغمت هذه الرؤية العثمانية مع رغبة شريف مكة بركات بن محمد الحسيني في الدخول في ولاء الدولة العثمانية لحماية أراضي الحجاز، وتعيينه حاكما على مكة في ظل حكم العثمانيين.

والحقيقة تقول:

أن العالم الإسلامي كان يتلمّس قوة إسلامية تجمع الشتات، وتلمّ الشمل الإسلامي الذي تبعثر على مائدة المؤامرات والدسائس وخيانة الولاة والعمالة للشرق والغرب، فما إن لاحت هذه القوة الناشئة التي ترفع راية واضحة، حتى وجد الكثيرون ارتياحا للدخول تحت لوائها.

ولو رأيت ثم رأيت ذلك المشهد الحجازي التركي لتذوقت مثلي القهوة بنكهتيها: (السعودية التركية) المضمّخة بجوزة الطيب وحبّ الهال وأنت تراقب مشهد ترحيب الملك سلمان بسيّد الأستانة اردوغان ولاستحضرت معي  طيف السلطان العثماني سليم الأول يستقبل أثناء وجوده في مصر، وفدا حجازيا يترأسه نجل الشريف بركات شريف مكة، يحمل رسالة من والده تفيد دخوله تحت السيادة العثمانية، لتدخل الحجاز طواعية وبصورة سلمية تحت لواء الدولة العثمانية.

* لقد كان لضم الحجاز تحت راية العثمانيين أهميته بالنسبة إلى الجانبين..

 استفاد العثمانيون من كونهم صاروا أصحاب الحماية والوصاية على بلاد الحرمين، وهو ما وسّع وعمّق من نفوذهم، باعتبارهم حماة المقدسات، وعلى الجانب الآخر، استفادت الحجاز من القوة والهيبة العثمانية في حماية أراضيها من هالاعتداءات الخارجية، والحفاظ على المقدسات الإسلامية.

ومنذ ذلك الوقت صار اللقب الديني لسلطان الدولة العثمانية هو:

(حامي حمى الحرمين الشريفين) وهو ما يشير إلى أن أرض الحجاز بمقدساتها كانت مصدر قوة للعثمانيين أيضا..

تشريف وتكريم:

نظرا لمنزلة هذه البقاع لدى العالم الإسلامي بأسره، لم تعامل كسائر الولايات والأقاليم التابعة للدولة العثمانية، حيث حرص العثمانيون على الصبغة الاستقلالية لهذه البلاد، وكلفوا ولاة مصر بتحمل نفقات أهل الحجاز، وازداد نظام الأشراف قوة ونفوذا في عهد الدولة العثمانية.

* في الحرم المكي كان يقام حفل سنوي كبير بمعرفة شريف مكة، يتلى فيه الفرمان العثماني لتجديد تسلم براءة منصبه كشريف مكة، ويعلن ولاءه للخلافة العثمانية وسلطانها، بحضور القاضي الذي يُعينه السلطان العثماني في تلك البقاع، علما بأن الحجاز كانت تتبع مصر إداريا تحت راية الخلافة العثمانية.

* لقد أولى العثمانيون أرض الحجاز وأهلها عناية خاصة، فأعفت الرعايا من الضرائب، وأسقطت عنهم واجب الخدمة العسكرية.

كما اعتنى سلاطين الدولة العثمانية أشد العناية بالحج إلى بيت الله الحرام، وقاموا بتأمين طريق الحج، وتوفير سبل الراحة والأمان لحجاج بيت الله، وقام السلاطين بإرسال الأموال إلى بلاد الحرمين تحت حراسة الحاميات العثمانية.

* واهتم سلاطين الدولة العثمانية كذلك بإرسال الأموال إلى أشراف تلك البلاد وعلمائها والقائمين على خدمة الحرمين، بل تعدّت تلك النفقة إلى القبائل التي تسكن بين الحرمين الشريفين، وكانت هناك (قافلة الصرّة) ترسل من قبل السلاطين العثمانيين من العاصمة في (الثاني عشر من رجب من كل عام) إلى الأشراف والأعيان والفقراء ومجاوري مكة والمدينة، وهي عبارة عن هدايا مالية، فيها محصلة الأموال الموقوفة على الحرمين.

وطيلة عصور القوة للدولة العثمانية، وجّه سلاطينها جهودهم للاهتمام بالجزيرة بوجه عام، وبلاد الحرمين بوجه خاص، إلى أن دبّ الضعف في ولايات الدولة العثمانية مع بدايات القرن الثامن عشر الميلادي، ودخلت الدولة في مرحلة الدفاع على الصعيد الأوروبي، وانشغل السلاطين بالمشاكل الداخلية التي تفاقمت، وضعف الاهتمام ببلاد الحجاز.

فحتى هذا الوقت كانت الحجاز تدين بالولاء والانتماء للدولة العثمانية باعتبار السلطان العثماني رمزا إسلاميا تلتف حوله الدول الإسلامية، وفي الوقت نفسه تحتل أرض الحجاز مكانة رفيعة لدى سلاطين العثمانيين، لوجود المقدسات الإسلامية بها.

عوْدٌ على بدء:

فالعلاقات الجيدة إذن بين تركيا والسعودية، ليست وليدة اليوم، وهي نتاج طبيعي للإرث التاريخي والحضاري والديني للدولتين، وأصبح التقارب بين الجانبين حاجة ملحة، وعلى وجه الخصوص في ظل الحكومة التي يتزعمها حزب العدالة والتنمية على مدى 13 عاما، والذي أخرج تركيا من عزلتها عن الدول العربية، وفي ظل تولي خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز زمام الأمور في المملكة العربية السعودية، وتفهمه للأوضاع الإقليمية في المنطقة، وأهمية التقارب التركي السعودي في مواجهة المشاريع الإيرانية والصهيونية.

وحتى يتحقق ما استشرفته من التحالف التركي السعودي، وقيادة الشرفاء لإسقاط المشاريع الشيطانية الموبوءة ، سيظل مذاق القهوتين في فمي وسأظلّ أرتشفُ المزيد، وإلا أكسر فنجاني وأقول للقهوة بنوعيها وداعا..

عن الكاتب

احسان الفقيه

كاتبة أردنية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس