كمال أوزتورك – صحيفة يني شفق – ترجمة وتحرير ترك برس

كان العثمانيون يدافعون عن الأمة، وليس عن الإمبراطورية، فالخلافة العثمانية هي قلعة الإسلام الأخيرة، وآخر من رفع لواء الإسلام، وخط الدفاع الذي شكلته كانت تدافع من خلاله عن حضارة امتدت طوال 1300 عام.

لم يكن الهدف "جنق قلعة" وإنما كان الهدف اسطنبول

كان هدف الإمبريالية الانجليزية القضاء على هذه الحضارة العظيمة، وكانوا يدركون أنّ تحقيق هدفهم هذا يمر عبر احتلال رأس المسبحة، مدينة اسطنبول، لهذا كانت "جنق قلعة" تمثل هدفا استراتيجيا، لأن عبور مضيق الدردنيل سيوصل إلى مضيق البوسفور، وهكذا كانوا يريدون إسقاط اسطنبول التي كانت عاصمة لإمبراطورية تمتد من الهند إلى البوسنة، ومن القرم إلى اليمن. لواء الإسلام كان مرفوعا في اسطنبول على مدار 400 عام، لهذا كانوا يريدون إسقاطه ثم تمزيق البلاد الإسلامية والسيطرة عليها ونهب خيراتها.

أصبح "جنق قلعة" خط الدفاع الأول للدفاع عن الحضارة الإسلامية في وجه الغزو الغربي، بعدما اسقطوا البلقان، حينما تجاوزوا خط الدفاع الذي وضعه السلطان عبد الحميد على حدود البلقان، وهكذا استطاعوا التوغل داخل الدولة الإسلامية، وبدؤوا بالتقدم نحو أراضيها الآسيوية، لكنهم فشلوا في تجاوز "جنق قلعة"، ولم يستطيعوا هزم أطفال العثمانيين وشبابهم، لينتصر المسلمون في تلك المعركة انتصارا يتحدث عنه العالم منذ مئة عام، وهكذا قدم العثمانيون أبنائهم وأولادهم قربانا لحماية اسطنبول، ولحماية لواء الإسلام من السقوط.

ليس دفاع عن المدينة فحسب، وإنما دفاع عن الدين

كان فخر الدين باشا من أعظم العساكر العثمانيين والذين هضم التاريخ حقهم، ولم يحصل على الشهرة الكافية، فقد كان القائد الأخير الذي يدافع عن رمز الإسلام، عن المدينة المنورة، فهو كان يدرك أنّ سقوط "جنق قلعة" سيعني لاحقا سقوط المدينة المنورة، كان يدرك أنّ سقوط "جنق قلعة" يعني سقوط الحضارة الإسلامية، لذلك دافع دفاعا مستميتا وقدم كل ما يملك لإفشال ذلك.

كان يعلم هذا القائد الفذّ، أنه بمحاربته لقوى الامبريالية الإنجليزية يدافع عن المدينة، ويدافع عن قلب الأمة الإسلامية، لأن سقوط مكة والمدينة يعني موت قلب الأمة الإسلامية، يعني تشتيت الأمة وتفريقها وتمزيقها.

لم تستطع أي قوة كسر خط الدفاع المتين الذي كونه هذا القائد، لم تستطع أي قوة أنْ تهزمه في الخنادق التي أنشأها، لم يستطع أي أحد أنْ يلحق الهزيمة بفخر الدين باشا، لهذا لم تسقط المدينة.

اليمن باب العبور نحو الحجاز

لم يكن هدف الإنجليز جبال اليمن ولا صحراء الحديبية، وإنما كان هدفهم الدخول من باب الحجاز، ألا وهو اليمن، فعندما تسقط اليمن، تُكسر قدم الدولة العثمانية في الحجاز، والتي ترتكز على اليمن، فكان هناك والي اليمن محمود نديم باشا الذي دافع عن اليمن وعن سقوطها، فهو كان يُدرك أنّ اليمن هي خط الدفاع الأول في جنوب الدولة العثمانية، وهي خط الدفاع الجنوبي للحضارة الإسلامية، لهذا لم يُهزم، ولم يجعل اليمن تسقط، ليحمي بذلك مكة والمدينة من الطرف الجنوبي.

سقط العلم في اسطنبول

بعد ذلك هُزم الألمان في الحرب، واعتبرت الدولة العثمانية من الدول المهزومة أيضا، وقد اتخذ القائد محمود نديم باشا أمر الإنسحاب من اليمن وعيونه تسيل على وجهه، فقد وصل اليزيديون إلى حدود صنعاء وحاصروها، وحينما استلم قائد اليزيديين الحُكم عن العساكر العثمانيين قام بتقبيل جبينهم، ليخرجوا من هناك مرفوعي الرأس، ولم تشهد اليمن بعدها حتى يومنا هذا مثل تلك الطمأنينة والسكينة التي كانت تحظى بها في ظل الخلافة الإسلامية.

وبنفس المشهد، بكى القائد فخر الدين باشا في المدينة المنورة، ولم يقبل أمر تسليم المدينة المنورة، وحينها كتب الضابط إدريس الأبيات التالية:

لا يمكن أنْ يفعلها ابن ارطغرل

بل يقدم روحه من أجلها

سنبقى خدام الحرمين الأبديين

ولو متنا ستنتظرنا أرواحنا في الروضة الشريفة

لم يسلّم فخر الدين باشا سيفه إلى الإنجليز، وإنما سلمه إلى تربة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد أخرج من المدينة رغما عنه.

لم يستطع الإنجليز العبور نحو اسطنبول من خلال حرب "جنق قلعة"، لكنهم وصلوا إليها من خلال اتفاقية موندروس، وهكذا أسروا العاصمة، وقطعوا رأس المسبحة، لتتناثر خرزاتها، وسقط العلم واللواء في اسطنبول.

مزقوا الحضارة الإسلامية، ومزقوا ودمروا قلعتها الأخيرة، وقسموا الأراضي العثمانية إلى 64 دولة، فسقوط الحضارة الإسلامية بدأ منذ ما حصل في الأندلس، وقاموا ويقومون الآن بعمل كل شيء من أجل أنْ لا تقوم لنا قائمة من جديد، لكنهم فشلوا وسيفشلون في ذلك، لأن الشعوب ما زالت تعيش حضارتها الإسلامية، ولذلك ما يزالوا يحاولون القضاء نهائيا على كل مشاهد الحضارة الإسلامية.

لم نُهزم في "جنق قلعة"، كما لم نُهزم في اليمن، ولم نُهزم في المدينة، فلواء الإسلام ما يزال في مكان سقوطه، في اسطنبول، وسنبقى ندافع عن الأمة كما كنا.

عن الكاتب

كمال أوزتورك

إعلامي صحفي تركي - مخرج إخباري وكاتب - مخرج أفلام وثائقية - مدير عام وكالة الأناضول للأنباء سابقًا


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس