توران قلاشلاقجي - القدس العربي 

تستمر «اللعبة الكبرى» في البحر الأبيض المتوسط الذي امتدت إليه معركة النفط والغاز بين القوى العظمى. الدول التي ليست لها حدود على البحر الأبيض المتوسط، تهيمن أكثر وراء الحروب المستمرة في سوريا وليبيا وغيرهما من البلدان الشرقية. إن هذه الحرب ليست حربًا أيديولوجية أو عرقية أو طائفية، بل على العكس من ذلك، هي حرب مستمرة بين بيادق الغرب والسكان الأصليين في المنطقة.

تحرص تركيا على حماية شعوب البحر الأبيض المتوسط، وتحذّر البلدان المطلة على هذا البحر من «اللعبة الكبرى». تركيا التي تدعو البلدان العربية المسلمة إلى حماية حقوقها في البحر الأبيض المتوسط، تسلط الضوء من ناحية أخرى على اللعبة التي تمارسها إسرائيل واليونان وفرنسا. وهذا هو سبب وقوف تركيا بجانب حكومة طرابلس التي تمثل الليبيين وتعترف بها الأمم المتحدة، ضد البيادق المحليين للغرب الذي يجر ليبيا بشكل خاص من فوضى إلى أخرى منذ 6 أعوام.

تدعو تركيا الدول المتشاطئة للوحدة من أجل مواجهة أعمال النهب والقرصنة القائمة في البحر الأبيض المتوسط، وتواصل في هذا الصدد إجراء اللقاءات مع تونس والجزائر وإيطاليا. إن «اتفاق وقف إطلاق النار» الذي توصل إليه الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس فلاديمير بوتين، خلال لقائهما، لإنهاء الحرب في ليبيا، أزعج بشكل كبير خبثاء الغرب وبيادِقهم. هؤلاء البيادق الذين تدعمهم فرنسا ومصر والإمارات العربية المتحدة، يواصلون ممارسة شتى أنواع الألاعيب لإفساد وقف إطلاق النار، ويهدف الدفاع الرئيسي وراء «اتفاق البحر الأبيض المتوسط» الذي أبرمته تركيا مع ليبيا، إلى إفساد «اللعبة الكبرى» التي هدرت دماء العرب في هذا البحر.

وفي هذا الإطار، أثارت مذكرتا التفاهم اللتان وقّعتهما تركيا وليبيا في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، حول تحديد مجالات الصلاحية البحرية والتعاون الأمني والعسكري، ردود فعل واسعة في البلدان المجاورة. كما أن مصادقة البرلمان التركي بالأغلبية في 2 كانون الثاني/يناير على مذكرة التفويض الرئاسية لإرسال قوات إلى ليبيا، أظهرت للعالم مدى إصرار وحزم تركيا في حماية حقوقها شرق المتوسط.

في الواقع، بدأ الصراع شرقي البحر المتوسط أوائل عام 2000 على خلفية الإعلان عن اكتشاف احتياطيات ضخمة من الغاز الطبيعي والنفط في هذه المنطقة. وتتضاعف أهمية شرق المتوسط في سياق الطاقة عند الأخذ بعين الاعتبار إمكانية تزايد هذه الاحتياطيات المعلنة مع اكتشاف حقول جديدة. وقد أدى استكشاف هذه الموارد الوفيرة واستخدامها إلى زيادة شهية الجهات الدولية الفاعلة، ولا سيما الحكومات والدول المتشاطئة في شرق البحر المتوسط، وتسريع أنشطتها في ترسيم حدود الصلاحية البحرية.

بدأ أول خلاف بين الجهات الفاعلة الإقليمية حول ترسيم حدود الصلاحية البحرية القائم على تقاسم موارد الطاقة، عقب ممارسة «إدارة جنوب قبرص» أنشطة أحادية الجانب في شرق المتوسط منذ أوائل الألفية الثالثة، وتوقيعها اتفاقيات ثنائية مع بعض دول المنطقة. أعلنت إدارة قبرص بدعم من اليونان والاتحاد الأوروبي، منطقة اقتصادية خالصة باسم «جمهورية قبرص»، اعتبارًا من 21 آذار/مارس 2003، متجاهلة حقوق جمهورية شمال قبرص التركية وتركيا.

الإدارة القبرصية وقعت اتفاقيات ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة في 17 شباط/فبراير 2003 مع مصر، و17 كانون الثاني/يناير 2007 مع لبنان، و17 كانون الأول/ديسمبر 2010 مع إسرائيل. وعقب هذه المحاولات الجريئة، أعلنت الإدارة القبرصية عن 13 ترخيصًا للتنقيب عن النفط والغاز مع اليونان داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة المزعومة. وتتواصل مساعي الإدارة القبرصية واليونان لضمان تدخل شركات الطاقة العالمية والجهات الفاعلية الخارجية، دون تقديم حلول للمشاكل القائمة بينهما مع تركيا. وتستمر العديد من الشركات أنشطتها في شرق المتوسط، مثل إيني الإيطالية، وتوتال الفرنسية، ونوبل إنرجي وإكسون موبيل الأمريكية.

تمكنت ليبيا وتركيا، وهي صاحبة أطول شريط ساحلي على المتوسط، من إفساد اللعبة في شرق المتوسط، ودافعتا عن حقوقهما في هذا البحر، عبر الاتفاق الذي قامتا بتوقيعه ضد إدارة جنوب قبرص واليونان وإسرائيل، التي حدثت معها خلافات بشأن مناطق الصلاحية البحرية. اليوم يمكننا أن نجمع الجهات الفاعلة العالمية والإقليمية في شرق البحر المتوسط ضمن خمس مجموعات: المجموعة الأولى تمثل الدول المطلة على شرق المتوسط. وهي تركيا واليونان وإدارة جنوب قبرص وجمهورية شمال قبرص التركية وسوريا ولبنان وفلسطين (قطاع غزة) ومصر وليبيا وبريطانيا (قواعد أكروتيري ودكليا السيادية) وإسرائيل. والمجموعة الثانية الاتحاد الأوروبي. والمجموعة الثالثة الولايات المتحدة. والمجموعة الرابعة روسيا. والمجموعة الخامسة والأخيرة الصين والبلدان الأخرى. بطبيعة الحال نرى أن هذه الجهات الفاعلة تتواجد في البحر الأبيض المتوسط عبر سفن المسح السيزمي وشركات الطاقة العملاقة والأساطيل.

ومثلما أصبح حوض بحر قزوين منطقة صراع جديدة لتقاسم الطاقة في أوائل التسعينيات، أصبح شرق البحر المتوسط أسًاسا لصراع مماثل خلال الألفية الثالثة. ومثلما تسببت نهاية حوض بحر قزوين في حدوث أزمات أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية والشيشان-إنغوشيتيا، فإن أحد الأسباب الرئيسية لما يحدث في سوريا وليبيا والانقلاب العسكري في مصر والهجمات على غزة، هو بشكل مباشر الصراع على الطاقة في شرق البحر المتوسط. تواصل القوى العظمى القيام بمناورات جيوسياسية يمكنها السيطرة على شرق البحر المتوسط الذي سيكون حوض قزوين الجديد في المستقبل، وذلك عبر القتل وإراقة الدماء والدموع.

ويجدر بنا أن نقف هنا لنقول إن البحر الأبيض المتوسط، وهو المكان الذي تأسست وانهارت فيه كبرى الحضارات خلال العصور القديمة، استعاد في الوقت الراهن أهميته التاريخية. وهذا يدل على أن القوى العالمية والقوى الإقليمية في القرن الحادي والعشرين ستظهر وفقًا لمواقعها في البحر المتوسط. هذا البحر الذي يضم أكبر احتياطيات للغاز والنفط في التاريخ، تنتظره في السنوات المقبلة أحداث كبيرة.

إن اليونان وإسرائيل بشكل خاص، والعديد من البلدان الغربية، تعمل على إبعادِ البلدان المسلمة تحديدًا من البحر المتوسط، وجعلِها تابعة لها، بينما تواصل تركيا وليبيا والجزائر والعديد من الدول جهودها لحماية حقوقها في البحر المتوسط. سوف ترى الأجيال القادمة وتدرك عن قرب مصير أولئك الذين لا يدافعون عن حقوقهم في البحر المتوسط سواء اليوم أو المستقبل.

ورغم كل المؤامرات الكبيرة، تواصل تركيا مساعيها للدفاع عن حقوق شعبها وشعوب البلدان المسلمة في البحر الأبيض المتوسط لأن تركيا تؤمن بالمصير المشترك وتدرك أهمية التعاضد والتكامل. سوف نشاهد جميعًا كيف ستكون النتيجة في السنوات المقبلة.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس