فهد الرداوي - خاص ترك برس

حبس العالم أنفاسه وراقب الوضع بقلقٍ كبير، في المنطقة المتوترة أصلًا، وذلك خشية وقوع حربٍ لا تُحمد عقباها، إثر استهداف الولايات المتحدة الأمريكية للجنرال الإيراني قاسم سليماني والذي قتلته في العراق الأسبوع الفائت، فكان العالم يترقب باهتمام بالغ ردود الأفعال التي ستأتي من الجانب الإيراني الذي أطلق عنان التصريحات النارية بوجوب الثأر لمقتل سليماني.

قاسم سليماني.. أو مهندس النفوذ الإيراني

قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري والمُدرج على قائمة الإرهاب بحسب القرار الأممي 1747 في 18 أيار/ مايو 2011م، والذي اتهمته الولايات المتحدة بقتل المئات من الأمريكيين والوقوف وراء اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد (قبل مقتله بأيام قليلة)، الأمر الذي أعتُبرَ خطًا أحمر أدى لاستهدافه، هذا الجنرال الذي صال وجال خارج حدود بلاده طولًا وعرضًا في دولٍ أسماها "دول الثورات الإسلامية" في إشارة إلى تمدد نفوذ الثورة الإيرانية التي أشعلها الخميني في إيران حين أطاح بحكم الشاه في العام 1979م، فمن العراق إلى سوريا ولبنان، جاب هذا الجنرال يشحذ همم مرتزقته الذين استجلبهم من شتى أصقاع الأرض لتمكين نفوذه وبسط سيطرة بلاده وقتل وتشريد الملايين من السوريين والعراقيين، مُستترًا بحجج واهية منها طائفية ومنها دينية ومنها رمزية تمثلت بحماية العتبات المقدسة والأضرحة، فظهر في أكثر من مناسبة على الجبهات وخطوط النار والاشتباك المتقدمة، ما أكسبه شعبيةً بين مرتزقته ومُحبيه حولته إلى أيقونة قيادية باتت تُقلق الجميع، فقد عظم شأن قاسم سليماني داخل مؤسسات الحكم الإيراني وكثر أتباعه وموالوه.

فكان خبر مقتله الذي فتح بابًا لنتائج غير معلومة العواقب، فقد جاء مُزلزلًا ومُدويًا في مؤسسات الدولة الإيرانية (السياسية والعسكرية) بحزبيها الإصلاحي والمحافظ، فرجل إيران الثاني ترتيبًا في هرم الدولة بعد المرشد الأعلى قد قُتل وأين...؟؟  في العراق، البلد الذي تتمتع فيه إيران بنفوذ هائل وسيطرةٍ مُطلقة، فمن المؤسسة الرئاسية إلى المؤسسة الأمنية والاستخباراتية إلى البرلمانية والسياسية والعسكرية بحشديها "الشعبي والشيعي" وصولًا إلى المؤسسة الدينية بحوزاتها ومرجعياتها، جميعها تُطبقُ عليها إيران بقبضةٍ فولاذية، وجميعها (أي تلك المؤسسات) لم تستطع ردع اليد الأمريكية التي قتلت جنرال إيران القوي، فربما كانت ثغرةً أمنية أو واقعًا فرضه التفوق الاستخباراتي الأمريكي الذي نجح بإتمام هذه العملية بسرعة فائقة وسلاسة في التنفيذ، وكان لزامًا على الجانب الإيراني الرد لحفظ ماء الوجه وتخفيف وطأة الصدمة والفجيعة وحفظ هيبتها أمام تلك الحشود التي شيعت المقتول سليماني.

التصعيد اللفظي والرد الخجول

جاء الرد الإيراني على مقتل سليماني، سريعًا ومفاجئًا للجميع وباعتراف علني من أعلى قيادات النظام الإيراني دون استخدامٍ أو تبني لأيٍّ من أذرعتها. حيث قام الحرس الثوري الإيراني بقصف القواعد الأمريكية في العراق بالصواريخ الباليستية انتقامًا لمقتل الجنرال قاسم سليماني، وهنا تكون إيران قد أوفت بتعهداتها بالرد المزلزل وإعادة تجربة فيتنام كما صرح به مستشار المرشد الأعلى حين هدد الوجود الأمريكي في المنطقة في محاولة منه لاستنساخ المواقف وساحات السيطرة كما حدث لأمريكا في فيتنام، وأنَّ الرد سيكون عسكرياً وعلى جغرافية لا حدود لها، ولكن الرد (المزعوم) حَملَ جميع التناقضات بين طياته، فقد جاء خجولًا مُتراخيًا لا يرقى لمستوى الحدث بأي معنىً من المعاني، بل تبعته تصريحات أخرى أكثر خجلًا، مفادها أنَّ الجانب الإيراني لا يريد الاستهداف البشري الأمريكي بل استهداف المعدات العسكرية وأنَّ إيران اكتفت بالرد على الولايات المتحدة.

ربما أرادت إيران ذرَّ الرماد في عيون مناصريها، وربما أرادت أيضًا أن تُعطي قيمة حقيقية لضربتها العسكرية "الخجولة" هذه وإيصال رسالة تصعيدية مفادها، أنَّ إيران لا تخشى المواجهة مع الولايات المتحدة وغير آبهةٍ بنتائجها وتستطيع الرد وضرب الأهداف العسكرية الأمريكية، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن إيران قد أعفت نفسها من المحاسبة الدولية إذا ما تأجج الوضع فيما بعد وأصبح أكثر تصعيدًا في حال نفّذت أذرعة إيران تهديداتها كحزب الله اللبناني الذي صرّح أمينه العام في نظريته الشهيرة "الأفقي والعمودي" وأردف بعدها قائلًا: "إن الرد الإيراني هو شأنها ولكن محور المقاومة عازمٌ على الثأر"، أو كذراعها الحوثي في اليمن أو بقية أذرعها الإرهابية التي تأتمر بأمرها والمنتشرة حول العالم.

الموقف الأمريكي ومطالب التهدئة

الولايات المتحدة التي التزمت التهدئة وعدم الرد على التطاول الإيراني باستهداف قواعدها العسكرية في العراق واكتفت بما جاء به خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب أمس الأول، اكتفت بفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على الجانب الإيراني المُنهك أصلًا اقتصاديًا وسياسيًا ومعنويًا، مع تهديدٍ مُبطن بأنَّ الولايات المتحدة على أتم الأُهبة والاستعداد للرد الساحق في حين تكرر أي هجوم على مصالحها، وبهذا تكون الإدارة الأمريكية الحالية حققت مكسبًا جديدًا يُضاف لتخلّصها من زعيم تنظم الدولة أبو بكر البغدادي الذي قتلته قبل بضعة أشهر، مكسبان انتخابيان عظيمان وتجنيب الولايات المتحدة الدخول بحربٍ شاملة ولو بصفةٍ مؤقتة، بهذه الأوراق ستدخل إدارة الرئيس ترمب الانتخابات القادمة.

ما زال المشهد ضبابيًا ويحتمل جميع الفرضيات والاحتمالات، فنشوب حربٍ شاملة ذاتُ عواقبٍ كارثية، سواءً كان بصفة الوكالة أو بمفهومها المباشر، هو أمرٌ ما زال قائمًا، ومسألة السعي لتطويق الأزمة ونزع فتيل الصراع أو المواجهة وتجنيب العالم ويلات الحرب وإيجاد منطقةٍ أكثر هدوءًا هو أمرٌ قائمٌ أيضًا ولكنه يحتاج لصيغة الحوار الدبلوماسي وتغليب لغة العقل وتهيئة الظروف لذلك، أي أننا نحتاج لوقت طويل وتنازلات مؤلمة سيكون الراجح فيها هو صاحب النفس الأطول.

عن الكاتب

فهد الرداوي

الأمين العام لتيار التغيير الوطني السوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس