د. علي حسين باكير - عربي 21

أدتّ غارة جوّية أول أمس إلى مقتل وجرح حوالي 65 جندي تركي في إدلب في أعلى حصيلة من الخسائر تشهدها تركيا في يوم واحد على الإطلاق. وبالرغم من أنّ العملية نُسبت إلى نظام الأسد، إلاّ أنّه لا يوجد أدنى شك في أنّ الذي قام بتنفيذها هو روسيا وليس النظام السوري الذي لا يمتلك أدنى فرصة للقيام بمثل هذا النوع من المهام. العملية تمّت ليلاً، واستخدم فيها أسلحة دقيقة لاستهداف مجموعة من القوات التركية في موقع محدد. النظام الذي يلقي البراميل على السوريين ليس لديه القدرة على الطيران ليلاً أو إلقاء قنابل دقيقة الإصابة فضلاً عن الإحداثيات اللازمة. 

حسابات أنقرة وموسكو

لم تتّهم تركيا روسيا بهذا الأمر وتنصّلت الأخيرة من مسؤوليتها، مشيرة إلى أنّها لم تقم بمهام جوّية في تلك المنطقة آنذاك. لكلا الطرفين مبرّراتهما في نسب العملية لنظام الأسد. بالنسبة إلى روسيا، هي لا تتبنى العملية لأنّ ذلك سيكون بمثابة إعلان حرب على دولة عضو في الناتو، وهذا سيمكن أنقرة من استدعاء المادة الخامسة من حلف شمال الأطلسي (الناتو) والتي تقول إنّ الاعتداء على دولة عضو هو اعتداء على الناتو ممّا يعني أنّ الأخير سيصبح طرفاً في معركة لا قِبَل لروسيا بها.   

في المقابل، فإنّ تركيا لا تريد اتّهام روسيا لأنّ ذلك، إن حصل، سيكون عليها أن تقوم بأمرين: الأوّل هو الإعلان أنّ ضرب موسكو لقوات تركيّة لم تكن في معركة ضد روسيا هو بمثابة إعلان حرب. أمّا الثاني، فهو أنّه يجب الرد على هذه العملية بضرب أهداف لروسيا. في هذه الحالة، تكون تركيا قد دخلت في مواجهة مع روسيا بدلاً من نظام الأسد، وفي معركة من هذا النوع، اليد العليا ستكون على الأرجح لروسيا خاصّة إذا لم يتم تقديم أي دعم لتركيا من قبل الولايات المتّحدة أو الناتو أو أوروبا.

لذلك، فانّ الادعاء بأنّ نظام الأسد هو من قام بذلك يخدم مصالح الطرفين مؤقتاً، ويساعد تركيا على تركيز ردّ فعلها على النظام من خلال تكثيف الهجمات الانتقامية ضدّه، ويتيح كذلك إبقاء المفاوضات أو شعرة معاوية قائمة مع روسيا حتى اللاحظة الأخيرة. 

على المستوى الأعم، فانّ ما حصل لا يمكن له أن يستمر دون ردّة فعل، إلا أنّ روسيا تحاول رفع التكلفة السياسية والماديّة والبشرية للموقف التركي لدفعه للتراجع. الحسابات الروسية تنطلق من رؤية مفادها أنّ لموسكو اليد العليا مع تركيا، وأنّ هذا يعطيها الأفضلية في تحدّي الموقف التركي وفرض الشروط والمواقف المناسبة، وأنّ على أنقرة أن تقبل بذلك لأن لا بديل لديها، فلا أمريكا ولا الناتو ولا أوروبا ستأتي للمساعدة. 

تركيا ومهمة تحييد روسيا في إدلب

وفقاً للتقديرات الروسية، من الممكن التغلّب على التعنّت التركي وموقف أنقرة المدعوم بحشد عسكري في إدلب بعدّة طرق إحداها رفع التكلفة البشرية على أنقرة ونقل تداعيات ذلك إلى الداخل التركي. هذا التصوّر يعزّز من معركة عض الأصابع الحاصلة الآن بين الطرفين. بالنسبة إلى الجانب التركي، فإن نظام الأسد، الذي لا يمتلك ما يخوّله الحفاظ على الأرض في ظل افتقاده إلى القوة البشرية، سينهار سريعاً ما أن تبدأ المعركة معه، إلا أنّ المعضلة الأساسية لتركيا هي كيف من الممكن تحييد روسيا دون الاصطدام معها؟

التراجع يعني هزيمة، ومواجهة روسيا يعني مصيبة، وبين الخيارين يتمسك الجانب التركي بموقفه بضرورة تراجع نظام الأسد وإلا فإنه سيكون هناك عملية عسكرية. على المقلب الآخر، فانّ روسيا تشدد على ضرورة تراجع أنقرة عن موقفها وإلا فإنه سيكون عليها تحمّل خسائر لا قدرة لها على تحمّلها. 

وبين هذا وذلك، فإنّ الأطراف التي باستطاعتها ترجيح كفّة تركيا لا تزال صامتة، فباستثناء بعض التصريحات هنا وهناك، لا يوجد حتى هذه اللحظة خطوات عمليّة لدعم تركيا لا من قبل الولايات المتّحدة ولا من قبل حلف شمال الأطلسي، وهو ما يزيد من صعوبة الموقف التركي. استخدام ورقة اللاجئين قد تحثّ الأوروبيين على التحرّك، لكن مفاعيلها قد لا تكون سريعة، إذ أنّ الأحداث تجري بشكل سريع والمهلة المحددة نهاية الشهر آخذة بالنفاذ سريعاً مع بقاء 48 ساعة فقط على انتهائها.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس