ياسر عبد العزيز - خاص ترك برس

بأصوات ما يقارب الــ 52 % من المواطنين البريطانيين المشككين في وحدة أوروبا والذي حسبهم اليمين البريطاني على نفسه، قررت بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي في  يونيو 2016، وإن كان الأمر لم يمر بهذه السهولة، إذ قاتل المتمسكون بالاتحاد الأوروبي من البريطانيين من أجل البقاء في الاتحاد الذي استفتي علي إنشائه في عام  1975، والذي دفع ثمن البقاء فيه أو الخروج الآمن منه عددا من رؤساء الوزارات المنتخبة في بريطانيا، بينما في المقابل حاولت الدول الست المؤسسة للاتحاد أن تحافظ على بقاء بريطانيا وضغطت من جانبها حتى تعدل بريطانيا عن القرار، حتى وصل الأمر إلى دفع المؤيدين للبقاء في الاتحاد والدعوة  إلى إعادة الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي، لكن ذلك لم يحدث بالطبع في ظل ضغوط الأصوات الرافضة للبقاء في الاتحاد الأوروبي ومن ورائها تلك القيم الحاكمة في الديمقراطية العريقة التي تعيشها بريطانيا.

وبرغم محاولات كل من ألمانيا وفرنسا الضغط باتجاه إبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، أو على الأقل الإبقاء عليها أطول مدة ممكنة، وصلت بريطانيا إلى ما لم تكن الدول المؤسسة ترغب أن تصل إليه، حيث أن خروج بريطانيا سيجر الحبل إلى خروج غيرها من الدول المتصدعة من داخلها بدعوات الانفصال، والذي يمكن أن تكون بريطانيا أول من يتجرع كأسه بعد مطالبات اسكتلندا إجراء استفتاء للانفصال عن التاج البريطاني، لاسيما وأن اتفاق الوحدة بين المملكة المتحدة واسكتلندا، الذي عقد قبل ثلاثة قرون، يعيش حالة من الترنح هذه الأيام، فإن كان اتفاق اسكتلندا مع لندن كان منذ ثلاثة قرون فما بالنا باتفاق ايرلندا الذي لم يتجاوز عمره الثلاثون عاما، وعلى ضرب كل من اسكتلندا وايرلندا يسير وبخطى أسرع إقليم كتالونيا والباسك في أسبانيا، بادنيا وتيرول في إيطاليا، وجزيرة كوريسكا في فرنسا ، وبافاريا في ألمانيا.

لكن وفيما يبدو لم تعد الأقاليم الصغيرة في دول أوروبا الموحدة وحدها من ترغب في الانفصال، بل هناك دول كشفت عن نيتها بعد أن شعرت بالوحدة وخيبة الأمل بعد جائحة كورونا التي تضرب العالم هذه الأيام، فالفيروس القاتل أظهر حقيقة الوحدة الأوروبية المزعومة، التي روج لها على مدى عمرها القصير وامتداد التجربة عبر عشرات السنين السابقة على إعلان الاتحاد، وتصوير تلك السنين على أنها سنوات النضال من أجل الاندماج والتآخي وصولا إلى الوحدة العضوية ذات الحدود المنزوعة.

منذ أيام خرج الرئيس الإيطالي عن صمته في تصريح صادم - وهو الرجل صاحب الــ 78 عاماً والمعروف عنه حكمته ورصانته وأنه رجل توافقي- وجهه لقادة أوروبا منبها ومحذرا وعاتبا حيث قال: (إن أوروبا تحتاج مبادرات جديدة ويجب أن تسقط المقاربات القديمة لأنها لم تنفع مع المستجدات).. وزاد الرجل على ذلك في تغريدة له على حسابه عبر تويتر مخاطبا الشعب الإيطالي بأنه كما الشعب الإيطالي لم يذهب إلى الحلاق بسبب ما تعيشه إيطاليا من حجر كامل، وهو ما زاد حنق الايطاليين على أوروبا، فقد غرد وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو  على حسابه عبر فيس بوك بأن (بلاده تنتظر ولاء من الشركاء الأوروبيين، في مواجهة حالة الطوارئ الصحية الاقتصادية الناجمة عن وباء فيروس كورونا المستجد)، وزاد دي مايو أن (بعد رفض دول بشمال أوروبا، من بينها ألمانيا، إنشاء آلية إقراض شاملة في منطقة اليورو فكلمة الولاء أصبح لها وزن مهم بالنسبة لنا، فالكلمات المعسولة لا تقدم شيئا لنا). 

هذا الشعور الذي يعيشه الشعب الإيطالي تجاه الاتحاد الأوروبي بعد أن افتقد روح التعاضد من دول الاتحاد بتخندقها وراء حدودها، لاسيما وأن الدعم قد أدركها عبر المحيطات من كوبا والصين ولم يأتي من الجار بالجنب، وهو ما شعرت به البرتغال وعبر عنه رئيس وزرائها أنطونيو كوست ردا على تدقيق الحكومة الهولندية تمرير المساعدات لدول الاتحاد الأكثر تضررا، حيث انتقد كوست ما أسماه (التفاهة المتكررة) للحكومة الهولندية، التي تعد عادة واحدة من أقوى المدافعين عن الانضباط في ميزانية الاتحاد الأوروبي. وقال: (حديث الانضباط والتدقيق في الميزانية في ظل هذه الظروف حديث بغيض).

فيما يبدو أن الاتحاد الأوروبي يلفظ أنفاسه الأخيرة في ظل التفكك القيمي الذي أوصل الشعوب إلى حالة بغض لما رأوه من أنانية مفرطة في تلك الظروف الحالكة التي يمرون بها، فليس بعد العمر رهان، ولا يعرف صدق الحديث إلا في الشدة، فيبدو أن رهان اليمين يذهب إلى الربحان، وفيما يبدو أيضا أن نبوءة الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي في كتابه الانحطاط بدأت تتحقق، حيث يرى أونفراي أن أيديولوجية أوروبا آخذة في الانهيار، وذلك نتيجة للسياسة الليبرالية التي تبرر وضع كبار السن في ممرات المستشفيات وتركهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، وهو ما يتكرر بإلقاء الفرق الطبية في ساحات محاربة الفيروس دون أقنعة واقية أو حتى معقم كحولي، لا ينذر بالسقوط ولا يعجل به وإنما يظهر بشكل كامل الطرق التي يسلكها هذا السقوط. 

فهل تسقط أيدلوجية الأنانية التي تسلكها أوروبا اتحادها، أم سيسقط الفيروس الدول نفسها بعد أن سقط القناع؟!

عن الكاتب

ياسر عبد العزيز

كاتب وباحث سياسي ومدير مركز دعم اتخاذ القرار في حزب الوسط المصري سابقا.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس