عبد الناصر يوسف - خاص ترك برس

كان أمس يوماً استثنائيًا في تاريخ تداول النفط، حيث سجلت أسعار العقود الآجلة مستويات سلبية وتدنيًا في أسعار الخام الأمريكي إلى ما دون الخمس دولارات للبرميل الواحد.

الصدمات التي تلقاها الاقتصاد العالمي في الأسابيع الأخيرة كان لها تداعيات على أسواق المال وبالأخص سوق النفط، حيث هبط مستوى الطلب العالمي نتيجة توقف عمليات الإنتاج والنقل في الدول الصناعية الكبرى وترافق ذلك مع فجوة بين العرض والطلب إثر حرب الأسعار الناشبة بين الدول المنتجة للنفط ضمن منظمة أوبك وخارجها، وللأسف لم يحقق ذلك إلا تداعيات أكثر سلبية على أسعار النفط بشكل عام.

النفط كونه سلعة استراتيجية لا تتحدد مستويات أسعاره بعوامل العرض والطلب فقط، بل تدخل أيضاً عوامل التكتيك السياسي في العلاقات الدولية والتحالفات ويستخدم السعر كوسيلة ضغط في أغلب الأحيان للوصول إلى اتفاقات لا علاقة لها مباشرة بآلية عمل السوق الذي من المفترض أن يجمع بين الشاري والبائع عند مستوى سعرٍ عادل.

من جانب ثانٍ وهو الأهم، يتم استخدام النفط كسلعة ضامنة للعقود المالية المعقدة التي يستخدمها المضاربون في أسواق المال بغرض تكهن أسعار المستقبل والتربح من ذلك، وبغرض الحماية من تذبذب الأسعار المستقبلية، فمثلاً، تحاول شركات الطيران الكبرى أن تضمن شراء ما تحتاج من مادة النفط عند سعر معين بتاريخ معين وبكمية معينة دون أن تتحمل مخاطر ارتفاع الأسعار في المستقبل، لذلك تلجأ إلى شراء بموجب  العقود الآجلة (forward and future contracts) التي تتيح لها استلام الكميات المتعاقد عليها ضمن شروط الاتفاق من حيث السعر والكمية والزمن. هذه العقود لا يتم تداولها حصراً من قِبل من يحتاج النفط ويستهلكه بل يتم تداولها في سوق المال بيعاً وشراءً ملايين المرات قبل تاريخ استحقاقها للتسليم، وكذلك الأمر بالنسبة لبعض العقود المشابهة كعقود الخَيار (options contracts).

العقود المالية آنفة الذكر تسمى عقود المشتقات المالية (financial derivatives) والتي تطورت بالتضافر بين علمي الرياضيات والمعلوماتية، ويجب الاعتراف أن تداول هذه الأدوات خرج عن إطار التداول الصّحي الذي أوجده علماء الاقتصاد المالي حيث كان المقصود منه لا شيء سوى إيجاد أدوات مالية يستخدمها البائع والشاري لدرء مخاطر المستقبل، ولكن وجدت كبرى شركات المال أن هذه الأدوات وسيلة مضاربة فعّالة لجني أرباح قد تصل معدلات الكسب منها إلى ثلاث أو أربعة آلاف بالمئة في فترة قياسية نسبياً دون مشقة تذكر سوى استخدام برامج حاسوبية تتبع نماذج رياضيه معقدة، وبذلك، أصبحت أسعار النفط تتحدد بموجب عوامل إضافية لا تدخل في حسابات العرض والطلب البسيطين نسبياً.

97 بالمئة من الشركات والأفراد الذين يتداولون عقود المستقبل والخيار (option and future contracts) في سوق النفط لا يودون الاستحواذ الفعلي على النفط و إنما التربح جراء ذبذبة الأسعار فقط والتخلص من العقود التي يحملونها في حقائبهم عند أول فرصة ربح ممكنة، وهذا أحد الأسباب الذي سببب الهلع في سوق النفط وأدى به إلى الانهيار يوم أمس، لذلك، وفي مرحلة من المراحل، عاجلة أم آجلة، سوف تضطر الحكومات إلى تقنين هذه العمليات المالية بصورة أكثر شفافية وأكثر موضوعية بحيث يتم تدارك مخاطر الانهيار قبل حدوثه.

خسارات أسواق النفط أمس أدت إلى إزاحة جزء من ثروات الأفراد والشركات والدول من يد إلى يد ومن حقيبة إلى حقيبة مما يزيد احتمالات إعادة هندسة العالم اقتصادياً وسياسيًا.

أرجو أن يكون العالم في قادم الأيام أكثر أمناً وازدهاراً مما نحن فيه الآن في هذا الزمن العاصف.

عن الكاتب

عبد الناصر يوسف

استشاري اقتصادي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس