د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

نجحت الحملة الصليبية إلى حدٍّ كبير في تثبيت وتأسيس أربع إمارات لاتينية:

الأولى: في أعالي الفرات، وهي الرُّها.

والثانية: في أعالي الشام، وهي إنطاكية.

والثالثة: على الساحل الشامي، وهي طرابلس.

أما الرابعة: فكانت في قلب فلسطين، وهي بيت المقدس .

إضافة إلى أربع بارونيات كبرى، هي: صيدا، ويافا، وعسقلان، والجليل، وإثنى عشر إقطاعاً تسلمها أصحابها من الملك الصليبي مقابل تقديم فروض الولاء والطاعة له، وتتمثل في: أرسوف، حبرون، الداروم، قيسرية، نابلس، بيسان، حيفا، تبنين، بانياس، كيفا، اللد، وبيروت.

وجدير بالذكر: أن هذا النجاح الذي حققته يرجع إلى عدة عوامل وأسباب ساهمت فيه؛ منها:

بداية ضعف الوحدة السياسية في الدولة العباسية:

بدأ الضعف يتسرب إلى جسم الدولة العباسية المترامية الأطراف في العقود الأخيرة من القرن الثاني للهجرة، الثامن الميلادي، عندما بدأت بعض الولايات البعيدة عن مركز الدولة في بغداد تنفصل مكونة دولاً مستقلة، وتعجز الخلافة عن إعادتها للسيطرة المركزية، فقد تأسست دولة الأدارسة في أقصى المغرب عام (172هـ/ 788م)، كما تأسست دولة الأغالب في تونس (184هـ/800م) ، ثم قامت الدولة الفاطمية على أنقاض دولة الأغالبة في تونس عام (297هـ/909م) ، وفي مصر قامت الدولة الطولونية عام (254هـ/868 م) ، أعقبتها الدولة الإخشيدية عام ( 323هـ/935 م) ، وفي عام (358هـ/969م)  استولى الفاطميون على مصر، وجعلوا القاهرة عاصمة دولتهم.

أ. خروج الغرب الإسلامي من نطاق الدولة العباسية:

وهكذا خرج المغرب الإسلامي، ومصر بشكل تدريجي من حيث الزمان والمكان عن نطاق الدولة العباسية، وظهرت خلافة جديدة تسيطر على النصف الغربي من العالم الإسلامي، وتسعى للسيطرة على النصف الشرقي الذي أصابه ما أصاب النصف الأول من حيث قيام الدول المستقلة، فقد قامت الدولة الطاهرية في خراسان عام (205هـ/820 م) ، وتبعتها الدولة الصفارية عام (254هـ/867 م) ، ثم غلبت على المنطقة السامانية التي تأسست عام (204هـ/819 م)  في بلاد ما وراء النهر، ثم امتد نفوذها لتشمل جميع البلاد التي كانت تتبع للدولة الصفارية، وكان نفوذ الخلافة العباسية تحول من سلطة سياسية إدارية روحية إلى سلطة روحية فقط، ولم يبق للخليفة سوى ذكر اسمه في خطب الجمعة متبوعاً باسم السلطان الغالب على البلاد.

ب. تمكن نفوذ الأتراك في عهد المعتصم:

ويعود ضعف الخلافة العباسية، وتلاشي سلطتها إلى أسباب كثيرة، ليس هنا مجال بحثها، وقد تمكن نفوذ الأتراك في عهد المعتصم (218 ـ 227هـ)  وكانت لهم حظوة في عهده، قرَّبهم وأسند لهم المناصب العليا في مركز الدولة والولايات، واعتمد عليهم في حراسة قصره؛ حتى تطاولوا على الناس وكثرت شكاوى الناس من ظلمهم في بغداد، فبنى لهم المعتصم مدينة سامراء وجعلها عاصمة لهم ومن حوله حاشيته من الأتراك، فزاد نفوذهم وصاروا وحدهم المتسلطين على أمور الخلافة والدولة، حتى صاروا هم الذين ينتخبون الخليفة الذين يريدون، ويعزلون من لا يوافق رغباتهم وأهواءهم.

ج. استيلاء البويهيون الشيعة على العراق:

وفي عام (334هـ/945 م)  استولى البويهيون الشيعة على العراق، وأضافوه إلى دولتهم التي تأسست قبل ذلك في فارس، وصاروا هم المتسلطين على شؤون الخلافة، وتعسفوا في معاملة الخليفة؛ حتى إنهم عذبوا بعض الخلفاء، وسجنوا بعضهم، وقتلوا البعض الاخر، وكان بإمكانهم إنهاء الخلافة العباسية والدعوة للخلافة الفاطمية في العراق وباقي المشرق الإسلامي، وخاصة بعد استيلاء الفاطميين على مصر؛ لكنهم لم يفعلوا ذلك ليس حفاظاً على الخلافة العباسية، بل حفاظاً على سلطانهم ودولتهم من أن تزول لصالح الفاطميين، الذين تمكنوا من بسط سيطرتهم على بلاد الشام وشبه جزيرة العرب، وأخذوا يبثون دعاتهم في العراق لإنهاء الخلافة العباسية وضم باقي المشرق الإسلامي لدولتهم، وفي عام (447هـ/1055 م)  استغلَّ أحد دعاتهم ضعف سلطة البويهيين، وأثار فتنة في بغداد تمكن خلالها مع مؤيديه من إلقاء القبض على الخليفة وحبسه، فاستنجد الخليفة بالسلطان طغرل بك سلطان السلاجقة الذين كانوا قد أسسوا دولتهم عام (427هـ/1037 م)  في بعض مناطق خراسان، ثم توسعوا جنوباً وغرباً في أراضي الدولة البويهية التي كانت قد ضعفت، كما تقدم، وسارع سلطان السلاجقة إلى استغلال الفرصة، فتوجه إلى العراق، وقضى على الفتنة، وعلى الدولة البويهية، وأعاد للخليفة اعتباره.

ولكن البساسيري الذي تأثر بدعوة الفاطميين استولى على بغداد بعد أن غادرها طغرل بك (450هـ/1058 م) وأقام الدعوة فيها للخليفة الفاطمي المستنصر بالله، إلا أن طغرل بك عاد إلى بغداد من جديد، وقضى على داعية الفاطميين، واستقرَّت الأوضاع في العراق لصالح دولة السلاجقة السنيين، الذين أظهروا قدراً كبيراً من الاحترام للخليفة، ولكنهم أبقوه رمزاً دينياً بدون قوة وصلاحيات.

وعندما اجتاح الصليبيون بلاد الشام عام (492هـ/1099 م) كانت الخلافة العباسية عاجزة تماماً عن القيام بأيِّ ردِّ فعلٍ سوى توجيه الرسل إلى سلاطين السلاجقة لمعالجة الأمر.

إنَّ القوة الإسلامية يقاس نجاحها في مقاومة هذا الخطر الصليبي بمدى تبنيها استراتيجيات واتباعها وسائل تحد من خطر هذه الاستراتيجيات الصليبية، إما عن طريق تبني استراتيجيات مضادة، أو منع الطرف الصليبي من تطبيق استراتيجياته على أرض الواقع، وهذا يمكن أن نلمحه من خلال تطورات ردود الفعل الإسلامية على التحدي الصليبي بدءاً من عهد عماد الدين، ونور الدين زنكي وصولاً إلى مرحلة صلاح الدين الأيوبي، واستكمالاً لما تم في عهد الدولة المملوكية، على أن لا يفهم من ذلك أن هذا التطور في رد الفعل الإسلامي في العهود الزنكية، والأيوبية، والمملوكية كان دائماً في الإطار الإيجابي، بل إن ما حصل أحياناً هو أن الطرف الإسلامي، أو بعض قواه، أو أفراده ساعد في نجاح الاستراتيجيات الصليبية، كما عرضنا للتو الأثر الخطير الذي شكله التفكك السياسي في الدولة الإسلامية قبيل اجتياح الصليبين لبلاد الشام.


المصادر والمراجع:

آسيا نقلي، دور الفقهاء والعلماء في الشرق الأدنى، ص 37.
عبد القادر أبو صيني، دور نور الدين محمود في نهضة الأمة، ص 24.
علي محمد الصلابي، دولة السلادقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلل الباطني والغزو الصليبي، ص 614- 617.
نعمان محمود جبران، دراسات في تاريخ الأيوبيين والمماليك، ص 31.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس