راغدة الحلبي - خاص ترك برس

ما إن تدخل الأراضي التركية حتى تلحظ مدى القواسم المشتركة والتشابه الكبير الذي يربط بينها وبين الدول العربية، فالمباني الأثرية القديمة والإنشاءات والساحات وسبل المياه والمأكولات والعادات والتقاليد.. معظمها موجود في المنطقة العربية، الأمر الذي يثير التساؤل عن مدى التفاعل الإجتماعي والثقافي الذي نتج عن حكم الإمبراطورية العثمانية لهذه الدول. لذلك، كان لنا حوار مع البروفسور اللبناني د. خالد عمر تدمري، وهو أستاذ في الجامعة اللبنانية - كلية العمارة والفنون الإسلامية، ورئيس الجمعية اللبنانية التركية، حاورته وطرحت عليه الأسئلة التالية…

*ما هي أبرز الأنظمة والقوانين التي وضعتها الدولة العثمانية في الدول العربية؟؟

      أسست الدولة العثمانية العديد من الأنظمة والقوانين في الدول العربية التي حكمتها، والتي لا تزال سارية المفعول لغاية الآن. والفترة الأخيرة من الحكم العثماني، وتحديداً في عهد السلطان عبدالمجيد، التي كانت قد عُرفت بفترة التنظيمات التي بدأت تتشكل على كل كافة الصعد بشكل متأثر بالغرب، ورست وتجلت في عهد السلطان عبدالحميد الثاني.

- فعلى الصعيد التربوي، تم تنظيم القطاع التربوي وإنشاء المدارس النظامية الأولى في جميع الدول الخاضعة لحكم السلطة العثمانية، وهي مقسمة إلى المراحل الثلاثة: ابتدائي، متوسط، وثانوي، ولا تزال معظم الدول العربية تسير على هذا المنهج.

    ففي لبنان، كان في طليعتها مكتب الصنائع في بيروت الذي كان بمثابة مهنية تُدرّس الحرف والمهن والصناعات، وتحولت اليوم إلى مقر لوزارة الداخلية في مبناها الصغير، وإلى المكتبة الوطنية في مبناها الكبير، وأمامهما حديقة الصنائع، وهي أكبر حديقة في وسط بيروت حتى يومنا هذا. 

      وكانت السلطنة العثمانية، تحديداً في عهد السلطان عبدالحميد، تعطي الرخص والأُذونات للجهات الإرسالية الأجنبية كي يفتحوا مدارس وجامعات ومؤسسات تربوية صحية في كل المنطقة العربية، فهم من سمحوا بتأسيس الجامعة الأمريكية واليسوعية والفرير والليسيه ومدارس الپيزنسون والألمانية والروسية والأمريكية. 

-  أما القطاع الإداري، فقد شهدنا إنشاء البلديات واستحداث مناصب المخاتير، وهنالك جزء كبير من قانون البلديات المعمول به حاليا في بلاد الشام  يعود الى العهد العثماني، إذ تم تقسيم المناطق إلى أقضية ومحافظات، وكانت تسمى ولايات، وقائمقاميات ولا يزال معمول به في عدد من بلاد الشام  كلبنان وفلسطين. حينها تم إنشاء السرايات الحكومية وهي خير دليل وشاهد على ازدهار تلك الحقبة.

    وفي لبنان تحولت هذه  الأبنية إلى سرايات للحكومة أو مراكز بلديات أو مراكز محافظات مثل سرايا بعبدا حيث مقر محافظ جبل لبنان، وسراي زحلة حيث بلدية زحلة، وسراي أميون وسراي البترون وغيرها الكثير من الأبنية. 

 - على الصعيد الصحي، فقد أولت الدولة العثمانية هذا القطاع اهتماما كبيراً إذ أسست أوائل المستشفيات الحكومية والعسكرية في جميع الدول العربية، والتي لاتزال قائمة لغاية يومنا هذا. كما أنشأوا دوراً للعجزة ومستشفيات للأمراض العقلية (العصفورية). 

*هل كان هنالك وجود للمؤسسات الإعلامية إبان الحكم العثماني؟

     بالطبع، لقد كان هنالك نشاط إعلامي مميز ، فعلى سبيل المثال، عندما أصبحت بيروت مركزاً للولاية العثمانية تأسس فيها أكثر من 100 صحيفة، وكان عدد الجرائد التي تصدر في بيروت يفوق العدد الذي يصدر في اسطنبول، وكانت جرائد أسبوعية. 

*هل اعتمدت الدولة العثمانية إنشاء المباني ذات الطراز العثماني في الدول العربية؟ أم أنها بنت القصور والصروح على حسب الطراز المعماري للدول التي حكمتها؟

       نجد في المدن التي كانت مراكز للولايات العثمانية أعداداً ضخمة من المعالم العمرانية والحضارية التي تركها العثمانيون، وهي أكثر بكثير من المعالم التي أقاموها في عدد من القرى والمناطق التركية.

    بالتأكيد، هنالك آلافاً مؤلفة من المباني والإنشاءات التي تنوعت ما بين مساجد وتكايا وزوايا ومدارس وأبنية إدارية من سرايات وأبنية للبريد والتلغراف وتوسعة مرافئ وسبل مياه وأبراج للساعات ومحطات للقطار ،ومدارس، ومكاتب تعليمية وعسكرية وثكنات للجيش وحمامات وأسواق ومستشفيات..  

       ففي لبنان، وبعد أن قمنا بإحصائية للآثار العثمانية في مختلف المناطق، تم تثبيت وجود ما يزيد عن 1300 مبنى لا يزال قائماً غير التي هُدِمت. فكيف هو الحال في مدينة دمشق أو القاهرة أو مصر أو فلسطين أو الجزائر أو تونس..

       هذا عدا عن اهتمام الإمبراطورية العثمانية بترميم القلاع والأوقاف الإسلامية التي تعود لفترات سابقة لحكمهم في جميع الدول التي حكمتها،  إذ رممت المساجد التي تعود لعهد المماليك والفاطميين . كما أعطت عناية خاصة للحرم المكي الشريف في مكة وللمسجد النبوي في المدينة المنورة، وكل ذلك موثق في الكتابات التاريخية المنقوشة في تلك المعالم، ومن خلال الوثائق العثمانية، وعددها بالملايين، في الأرشيف العثماني التابع لرئاسة الجمهورية في تركيا.  

  ويتميز الطراز العثماني بعناصر معمارية وفن معماري خاص، يختلف بين مبنى وآخر. فالمساجد العثمانية امتازت بالقباب الواسعة الكبيرة التي تغطي المكان بأكمله، والمآذن المروّسة التي تشبه أقلام الرصاص، وزخارف خاصة بهم. وانتشر هذا الطراز في جميع الدول العربية، وهذه الخصوصية جعلت من السهولة تمييز الجوامع العثمانية عن الجوامع السابقة لعهدهم.

     وإن كل هذه المعالم العمرانية التي أنشأتها السلطة العثمانية خلال فترة حكمها، إنما تدل على مدى الخدمات التي قدمتها للشعوب التي حكمتها، بعكس ما يتم ترويجه في بعض كتب التاريخ التي تتقصد تشويه فترة الحكم العثماني بحيث وصفتها بالفترة الظلامية.

* ما هي أهم المشاريع الإنمائية التي أنشأتها الدولة العثمانية؟

     أقامت الدولة العثمانية الكثير من المشاريع الإنمائية، منها: توسعة المرافئ وتطويرها، وتنظيم المدن من الداخل. نذكر منها أعمال توسعة مرفأ بيروت، ومرفأ الإسكندرية، ومرفأ طرابلس، وذلك بالتزامن مع توسعة مرفأي إزمير وطرابزون في تركيا. وهكذا تم تنشيط الحركة التجارية في مختلف مراكز الولايات العثمانية.

     وفي نفس الحقبة نفذت الإمبراطورية العثمانية أضخم مشروع لها في عهدها، وهو مشروع إنشاء السكة الحديد للقطار المعروف بخط الحجاز الحديدي الذي ينطلق من اسطنبول ويصل إلى المدينة المنورة، مروراً بسوريا ولبنان والأردن والسعودية، ثم تم إمداد الخط من حلب إلى بغداد.

      كما اهتموا بإنشاء سكك حديدية داخلية في الدول العربية، وجعلوا هذه السكك ترتبط بقطار الشرق الشهير الذي يربط اسطنبول بالدول الأوروبية، وهكذا وصلوا الداخل العربي بالدول الأوروبية عبر هذا القطار وعبر المرافئ التي قاموا بتوسعتها.

   اهتم العثمانيون باعتماد خطط مستحدثة لتنظيم المدن وتخطيط الشوارع وتشجيرها وإنشاء الساحات وشبكة تراموايات داخلية في مختلف الدول العربية، وكانت البلديات حينها تقوم بوضع هذه الخطط. ومن ضمن الساحات التي تم إنشاؤها آنذاك ساحة الشهداء في بيروت وساحة المنشية في الإسكندرية وغيرها..  

         وقام العثمانيون بتأسيس شبكات المياه في جميع الدول العربية من سدود وقصاطل وخزانات وسبل مياه، فأنشأوا سبل المياه داخل الأحياء في المدن لتأمين مياه الشرب كما هو الحال في مدينة القدس، وبيروت وغيرها..

     ومن أبرز المشاريع التي تثبت بأن السلطنة العثمانية لم تكن تميز بين المدن التركية والدول التي حكمتها، هو مشروع إنارة شوارع بيروت قبل عام واحد من إنارة شوارع اسطنبول، كما تذكر الوثائق العثمانية، إذ أُعطي ترخيص لشركة أسسها رجل أعمال لبناني كان قد تقدم بطلب الحصول على إمتياز تأسيس معامل الكهرباء المستخرجة من الفحم الحجري في الكرنتينا، فأنشأ المعمل وأُنيرت شوارع بيروت ليلاً وبعدها بعام أُنيرت شوارع اسطنبول.     

* هل كان هنالك نسبة زواج عالية بين الأتراك والعرب؟؟

     كان هنالك تزاوج كبير بين العثمانيين والعرب في تلك الفترة، ذلك أنه لم يكن يوجد حدود بل كانت الدول منفتحة على بعضها البعض.فنجد الكثير من أسماء العائلات في جميع العالم العربي لا تزال تحمل أسماء مدن وأصول تركية، مثل عائلة: الإسطنبولي، التركي، التركماني، و إزمرلي وغيرها... وهنالك تسميات تحمل ألقاب عسكرية وإدارية ومهنية مثل سنجقدار ، بيرقدار ، علم دار، صابونجي وخانجي.. 

     في المقابل، نجد أن هنالك عائلات تركية كثيرة ذات أصول عربية، خصوصاً، وأن المناطق التركية المجاورة لحدود الدول العربية لا تزال تحافظ على استخدام اللغة العربية مثل غازي عنتاب ومورفا ومردين وأضنا وغيرها.

*ما هي العادات الإجتماعية التي أخذها العرب عن العثمانيين أو العثمانيون عن العرب؟

   هنالك الكثير من العادات والتقاليد التي ورثها العرب عن العثمانيين منها عادات حياتية يومية أو عادات اجتماعية وتقاليد متبعة في المناسبات الدينية والإحتفالات. ففي تونس، مثلاً، لا يزال التونسيون يواظبون على الذهاب أسبوعياً إلى الحمام التركي أكثر مما هو الحال في تركيا.

   كما يوجد تشابه  بين العرب والعثمانيين في أسلوب التحضيرات وطريقة الإحياء للأعياد والمناسبات الدينية كعيد الفطر والأضحى والعيد النبوي وأجواء رمضان.. 

    وقد أهدى العثمانيون بعض المدن في بلاد الشام ومصر  "شعرات من لحية نبي الله محمد"،  والتي كانت ترسل من دائرة الأمانات المقدسة الموجودة داخل قصر توكا في اسطنبول ، فيتم وضعها في مساجد في مختلف الدول العربية. 

    ففي لبنان، وتحديداً في طرابلس اعتاد المسلمون في آخر يوم جمعة من شهر رمضان المبارك، أن يقيموا في كل سنة احتفالية دينية كبيرة، فتفتح الغرفة التي تحتوي على الآثار النبوية فيزورها الناس ليتبركوا بها. ولاتزال هذه الشعائر مستمرة في جميع المدن من أيام السلطانين عبدالحميد وعبدالمجيد اللذين أهديا هذه المقتنيات. 

    وفي تركيا، تم حفظ عباءة رسول الله محمد وشعرة من لحيته الشريفة في جامع الخرقة الشريفة في اسطنبول. وفي شهر رمضان، يحرص الأتراك على زيارة هذه الآثار النبوية وإقامة الإحتفالات التي تتضمن صلوات وأدعية وأناشيد دينية، والتي نجدها متقاربة جداً للأناشيد العربية إن من حيث اللحن أو الكلمات، إذ أنها لا تزال موحدة منذ تلك الأيام. 
        
    وبما أن السلاطين العثمانيين قد اهتموا بالطرق الصوفية، لذلك نجد عدد من التكايا في كل مدينة عربية، كالطريقة الصوفية المولوية ومركزها في مدينة كونيا التركية التي تتبع تعاليم مولانا جلال الدين الرومي. وقد انتشرت في جميع الدول العثمانية ووصلت التكية المولوية إلى حلب ودمشق وطرابلس وحماه والقدس الشريف والقاهرة وغيرها.. 

       وكذلك على الصعيد الفني، نجد هنالك تأثر كبير في المقامات والآلات الموسيقية .

*ما مدى تأثر اللغتين التركية والعربية ببعضهما البعض؟

      من المعروف أن 40 بالمئة من مفردات اللغة التركية هي عربية، وكذلك الحال بالنسبة لنا نحن العرب إذ أننا نستعمل الكثير من كلمات ومصطلحات كنّا قد أخذناها عن اللغة العثمانية. نذكر منها على سبيل المثال كلمة أوضة أي غرفة، طنجرة،صوفا، كنباية، شنطة، جزدان..

*ماذا عن التفاعل بين المطبخ العثماني والعربي؟

      بالنسبة للمأكولات، نجد ان هنالك الكثير من المأكولات العربية في المطبخ التركي، وبالمقابل تتواجد المأكولات التركية بكثرة في المطبخ العربي، ومنها ما يحمل أسماء المدن التركية التي أتت منها مثل الكباب العرفلي أو حلوى العثملية. ومن المعروف أيضاً مدى التأثر الكبير بين مطبخ حلب ومطبخ غازي عنتاب، فأكثر من نصف مأكولاته تعود لمطبخ حلب. وكذلك المطبخ العراقي والتونسي واللبناني ومختلف المطابخ العربية كلها تأثرت بالمطبخ العثماني وأثّرت به.

  * ختاما، نقول بأن حكم الدولة العثمانية للدول العربية على مدى 400 سنة أوجد الكثير من التفاعل الإجتماعي والثقافي والعادات والتقاليد لدى الشعوب التي حكمتها، خصوصاً، في كل من العراق وفلسطين والأردن ولبنان وسوريا ومصر والجزائر وتونس وليبيا والسعودية واليمن، لكن باقي دول الخليج لم يكن لديها ذلك التأثر الكبير لأنها كانت قليلة السكان ومدنها صغيرة

عن الكاتب

راغدة الحلبي

كاتبة وصحفية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس