إبراهيم أحمد عيسى - ساسة بوست

كلمات نُقشت بقلب الفتى الصغير محمد الثاني، ذلك الفتى الذي نال حظًا وافرًا من التعليم على أيدي أفضل علماء العثمانيين، فقد عهد أبوه “مراد الثاني” إلى العالمين الجليلين “أحمد بن إسماعيل الكوراني” والعلامة “الشيخ آق شمس الدين” بتربية الصغير محمد خان. فبثا فيه روح الجهاد والفتوحات بل كان إيحاؤهم له دومًا بأنه المقصود بالحديث النبوي عن فتح القسطنطينية.. تلك المدينة التي بقيت وحيدة لتكون آخر معاقل البيزنطيين. مدينة حاول الفاتحون منذ عهد الصحابة فتحها وتحقيق نبوءة لطالما اشتاقت نفوسهم أن يكونوا هم خير الجند وأن يكون أحدهم خير الأمراء.

والآن وبعد أكثر من ثمانمائة عام على النبوءة، ها هو السلطان محمد الثاني يشرف بنفسه على إعداد جيش الفتح فًاذن في المسلمين للتطوع في الفتح إلى أن قارب تعداد الجيش مائتين وخمسين ألفا، تم تجهيزهم بأحدث الأسلحة واستقدم المهندس المجري «أوربان» وهو أشهر صانعي المدافع، وكلفه بصنع المدفع السلطاني، وهو أكبر مدفع في التاريخ، واهتم بتقوية الأساطيل العثمانية حتى بلغ عدد سفنه 400 سفينة مختلفة الأحجام، ولكن جندًا وسلاحًا بدون عقيدة لا يفيدون بشيء لذا فقد تم بث روح الجهاد بقلوب جنوده وتذكيرهم بوعود الله للفاتحين، وانتشر الدعاة والوعاظ داخل صفوف الجيش لرفع إيمانيات الجنود.

كان محمد يعلم مدى صلابة تحصينات القسطنطينية؛ مدينة قهرت الكثير من الخصوم. فقد كانت الأسوار تحيط بالمدينة من جميع الجهات حتى من جهة البحر، ومن جهة البر توجد الأسوار العظمى التي يصعب اختراقها. كما توجد سلسلة ضخمة تغلق الخليج الصغير المسمى بالقرن الذهبي والتي تمنع السفن من الدخول إلى الميناء والذي بدوره يعد حصنا منيعا ضد أي هجوم بحري.

كان الإمبراطور البيزنطي “قسطنطين” يعلم بما يضمره محمد الثاني الذي رفض أن يستلم الجزية من القسطنطينية، والتي كانت تدفعها المدينة صاغرة مقابل ألا يتم الهجوم عليها، فرفض الجزية يعني أن محمدًا قد عزم أمره على الهجوم على آخر العروش الرومانية، فاستنجد قسطنطين بأمراء أوروبا قبل أن يتحرك محمد الذي كان يقف أمام قادته في تلك الأثناء مخاطبًا إياهم:

“إذا تم لنا فتح القسطنطينية تحقق فينا حديث رسول الله ومعجزة من معجزاته، وسيكون من حظنا ما أشاد به هذا الحديث من التقدير، فأبلغوا أبناءنا العساكر فردًا فردًا أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدرًا وشرفًا، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغراء نصب عينيه، فلا يصدر عن أحد منهم ما يجافـي هذه التعاليم، وليجتنبوا الكنائس والمعابد، ولا يمسوها بأذى، ويدعوا القساوسة والضعفاء والعجزة الذين لا يقاتلون”.

الحصار

فى يوم الخميس 26 ربيع الأول من العام 857 هـ – 6 أبريل/ نيسان 1453 م، كانت رايات العثمانيين تلوح في الأفق تقترب أكثر فأكثر من أسوار القسطنطينية قادمة من “أدرنة”، جيش تقدمه السلطان بفرسه الأبيض، كان قد عزم على أمرين النصر أو الشهادة، كذلك كان جنده تملؤهم الحماسة وتنتشر بينهم روح الإيمان، وفي اليوم التالي نشر السلطان قواته ليحكم الحصار البري على المدينة، وقد وضع المدفع العملاق أمام البوابة الرئيسية بينما راحت سفن الأسطول الإسلامي تجوب البسفور لتحكم بدورها الحصار من البحر، وقد استطاعوا السيطرة على جزر الأمراء في بحر مرمرة.

بذل البيزنطيون قصارى جهدهم في الدفاع عن المدينة على مدار أيام كانت الاشتباكات عنيفة يتخللها أصوات تصم الآذان. كانت المدافع العثمانية تدك الأسوار وإن هدم جزء يعيد المدافعون بناءه مجددًا في سرعة، استشهد الكثير من الجند تحت الأسوار وقتل الكثير من البيزنطيين وبث الرعب في نفوس أهل المدينة الذين كانت قلوبهم ترتجف من الرعب كلما دوى صوت المدافع. وفي تلك الأثناء استطاعت خمس سفن آتية من جنوة أن تدخل إلى القرن الذهبي خلسة، وعلى متنها القائد الجنوي جوستنيان ومعه سبعمائة مقاتل متطوع من أوروبا، لم تستطع السفن العثمانية أن تلحق بسفن جنوة فقد منعتها السلسلة العملاقة.

التفاوض

حاول الإمبراطور أن يتفاوض مع الفاتح – رحمه الله – ولكن السلطان رد برد قوي:

“فليسلم لي إمبراطوركم مدينة القسطنطينية وأقسم بأن جيشي لن يتعرض لأحد من نفسه وماله وعرضه، ومن شاء بقي في المدينة وعاش فيها في أمن وسلام، ومن شاء رحل عنها حيث أراد في أمن وسلام”.

كانت الرسالة بمثابة إنهاء التفاوض. فبينما كانت الحشود العثمانية تحاول فتح ثغرة بأسوار المدينة، كانت هناك معركة بحرية قوية قرب القرن الذهبي، فقد جاءت بعض السفن الأوروبية وحاولت دخول المدينة، وباغتت الأسطول العثماني الذي خسر بعض سفنه، أمام أعين الفاتح الذي كان يخوض الماء بفرسه صائحًا بجنده الذين كانت حياتهم على المحك وضاع صوته وسط صليل السيوف ودوى المدافع.

“ستسقط القسطنطينية عندما تُرى السفن تمخر اليابسة”.

في يوم 22 أبريل استيقظ أهل المدينة ليجدوا سفن المسلمين ترسو في القرن الذهبي. تساءلوا من أين جاءت وكان الجواب هو في الليلة الماضية حيث حدث شيء لم يسبق له مثيل، فقد أمر السلطان بحمل السفن برًا من بشكطاش إلى القرن الذهبي، فجمعت الأخشاب ودهنت بالزيت والشحم ووضعت على الطريق الممهد وجرها الرجال ثلاثة أميال من البسفور إلى القرن الذهبي وقد كان مشهد الأشرعة التي تسير وسط الحقول والأشجار أكثر المناظر دهشة وإثارة. كان لهذه الحادثة وقع كبير في نفوس أهل المدينة وإمبراطورهم فقد ألقي في قلوبهم الرعب.

“قريبًا سيكون لي في القسطنطينية عرش، أو يكون لي فيها قبر”.

نطق بها السلطان محمد وأملاها لرسول قسطنطين، بعد أيام من المفاوضات سبقتها أيام من البسالة أبرزها المسلمون، عبر حفر الأنفاق وتسلق الأسوار عمليات أقرب للجنون، أثارت الرعب في نفوس أهل المدينة أكثر فأكثر، ولكن هناك روحًا أخرى بدأت تبث في نفوس الجيش المحاصر.. روح بثها أحد المؤلفة قلوبهم بأن لا فائدة من الحصار فكل يوم يخسر الجيش مئات من الجنود دون جدوى. فعقد السلطان اجتماع شورى جمع فيه القادة والعلماء وأكد السلطان على عزمه فتح المدينة فبالإيمان وحده سيكون النصر والظفر.

وانتشر الدعاة والأئمة بين صفوف الجنود يبثون روح الجهاد والصبر حتى يأتي النصر. وفي يوم 28 مايو رأى البيزنطيون النيران تندلع في معسكر المسلمين هكذا ظنوا، حتى سمعوا صيحات التكبير ليكتشفوا أن ما تلك النيران سوى ليلة الاحتفال بالنصر مقدمًا.

فتح من الله

الساعة الواحدة صباحًا من يوم (20 جمادى الأولى 857 هـ/ 29 مايو 1435 م) بدأ الهجوم العام على المدينة، على صوت التكبير ومن خلفه صوت المدافع لتنهمر القذائف ومن تحتها القوات على أسوار المدينة، كان الهجوم ثنائيًا بحريًا وبريًا تزامن مع صوت أجراس الكنائس التي لجأ لها أهل المدينة.

وفي تلك الأثناء كانت الكتائب العثمانية تتسلق السلالم والقلاع الخشبية، موجات بشرية متلاحقة إعصار أصاب المدافعين بالشلل، أصيب جستنيان بجروح بليغة فترك جنوده وهرب، مما ثبط من عزائمهم ولكنهم تنفسوا الصعداء بعد أن شاهدوا انحسار موجات العثمانيين وقد هدأت المدافع بعد أن سقط جزء كبير من الأسوار، ظنوا أن العثمانيين استسلموا ولكنهم فوجئوا بكتائب جديدة. كتائب الإنكشارية يقودها الفاتح بنفسه يتقدمهم مطلقًا العنان لجواده القوي ومن خلفه صيحات التكبير، تزامن ذلك مع استيلاء المسلمين على باب أدرنة وأبراجه التي رفعت فوقها الرايات العثمانية. وبينما كانت ترفع الأعلام كان قسطنطين يسقط قتيلًا وسط ساحة المدينة وكان آخر ما رآه أعلام المسلمين تموج وتخفق فوق “عاصمة الدنيا”.

عن الكاتب

إبراهيم أحمد عيسى

كاتب روائي، وباحث تاريخ صدرت لي روايتين الاولى " طريق الحرير " والثانية "البشرات".


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس