محمود عثمان - خاص ترك برس

أسبوع مضى على الاستحقاق الانتخابي الذي لم يعط  فيه الناخب التركي أيا من الأحزاب السياسية حق تشكيل الحكومة بمفرده دون معالم واضحة في الأفق تفيد التوصل إلى نتائج ملموسة بخصوص تشكيل الحكومة الثالثة والستين من عمر الديمقراطية التركية، رغم بلوغ الجهود والاتصالات والمشاورات والتوصيات والوساطات ذروتها هذه الأيام، حيث توجت هذه الجهود بدعوة رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان رؤساء الأحزاب الأربعة الممثلة في البرلمان للتشاور معهم حول موضوع تشكيل الحكومة.

وفيما الجميع منهمك في انتاج سيناريوهات محتملة حول الشراكة الائتلافية المقبلة تبرز ثلاثة محددات رئيسية كمواضع خلاف حاد بين الفرقاء السياسيين ينبغي عليهم التفاهم حولها أولا قبل الشروع في أي خطوة عملية باتجاه تشكيل الحكومة. إذ سيتم بلورة شكل الحكومة وأطراف الشراكة فيها بناء على هذه المحددات. والترتيب هنا ليس بحسب الأهمية والأولوية إنما بسبب سياق النص.

المحدد الأول: رئيس الجمهورية وصلاحياته

إذ تجمع المعارضة على ضرورة تقييد صلاحيات رئيس الجمهورية ومنعه من مزاولته أي نشاط سياسي فاعل، واكتفائه بدور بروتوكولي محض لا يتجاوز تمثيل الدولة وفض النزاعات بين الأحزاب. الأمر الذي يرفضه رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان بتاتا. بل يتمسك بحقه في ممارسة النشاط السياسي بكافة أشكاله بناء على تفويض الشعب التركي الذي انتخبه بشكل مباشر.

ستبقى هذه القضية إذا إحدى المعضلات الرئيسية الواجب حلها، لأن أيا من الطرفين يصعب عليه تخطيها. إذ تشعر أحزاب المعارضة أنها من خلال شراكتها مع حزب العدالة والتنمية ستكون محشورة بين طرفين متماهيين، حزب العدالة والتنمية من طرف ومقام الرئاسة من طرف آخر مما يجعلها جزء مكملا قابعا في الظل بينما تجير جميع الانجازات لصالح حزب العدالة والتنمية.

المحدد الثاني: المصالحة الوطنية (المسألة الكردية)

ما عدا حزب الحركة القومي الذي عارض العملية برمتها ومنذ اليوم الأول وحتى الآن، فإن جميع الأحزاب السياسية التركية تؤمن بضرورة استمرار مباحثات المصالحة الوطنية أو بتعبير آخر حل المشكلة الكردية مضمونا لكن تختلف مع بعضها البعض في الطريقة والوسائل والأساليب. وعليه فإن شكلت حكومة ائتلافية بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومي فإن الأخير يشترط إيقاف عملية المصالحة أو تجميدها على الأقل. من جهته أعلن حزب الشعوب الديمقراطي أنه لن يدخل في حكومة ائتلافية مع حزب العدالة والتنمية، مما يبقى خيارا واحدا لاستمرار هذه العملية هو حكومة ائتلاف بين حزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري. السيناريو الذي يفضله قطاع واسع من السيسيين وغيرهم، يأتي في مقدمتهم رجال الأعمال والصناعيون الأتراك.

استطرادا. فإن حزب الشعوب الديمقراطي وإن كان في الظاهر أحد أطراف عملية المصالحة الكردية إلا أنه كان يعمل على خلط أوراقها ودفعها إلى طريق مسدود كلما تخطت حاجزا معتبرا ودخلت في مسار الحل. بل إن بعض المراقبين السياسيين يعتبرون جنوح هذا الحزب إلى التطرف إنما كان بقصد سحب البساط من تحت قدمي الزعيم الكردي التاريخي عبد الله أوجلان الذي فتح الباب على مصراعيه للمصالحة ورأى فيها خلاصا ومنجى للأكراد مقابل تعنت وتشدد القيادات العسكرية في جبل قنديل.

المحدد الثالث: السياسة الخارجية

تعتبر السياسة الخارجية أحد أهم محددات الشراكة الحكومية الائتلافية، وتحتل القضية السورية المرتبة الأولى في سلم أولويات السياسة الخارجية، حيث نلاحظ رؤيتين متضادتين متناقضتين حول القضية السورية، فبينما يعتبر حزب العدالة والتنمية بشار الأسد دكتاتورا ظالما سفاحا قاتلا لشعبه، ويعتبر اللاجئين السوريين مهاجرين رافضا تسميتهم باللاجئين أو المشردين بل يطلق عليهم تسمية الضيوف، يذهب حزب الشعب الجمهوري إلى ضرورة إعادتهم إلى بلدهم مهما كانت الظروف هناك، معتبرا أن الحرب الدائرة في سورية حربا أهلية لا علاقة لتركيا وشعبها بها.

وبينما ينهج حزب الشعوب الديمقراطي سياسة عنصرية قومية ضيقة تقوم على دعم مكون كردي بعينه هو PYD  الأقرب للنظام منه للمعارضة، حيث تطوع عدد غير قليل من منتسبي هذا الحزب للقتال إلى PYD في معركته ضد تنظيم داعش. كما يجب ألا ننسى أحداث الشغب التي افتعلها مؤيدوه والتي راح ضحيتها خمسون مواطنا احتجاجا على تقاعس الدولة التركية عن نصرة أكراد عين العرب "كوباني"!.

ومن الجدير بالذكر هنا أن الحكومة التركية عرضت على الأكراد المساعدة لكن بثلاثة شروط. الأول: فك ارتباط PYD بالنظام السوري، الثاني: التخلي عن فكرة الانفصال ومناطق الحكم الذاتي، والثالث: الانضمام إلى فصائل الجيش الحر. لكن زعيم PYD صالح مسلم الذي كان قد رتب أموره مع الأمريكان في وقت سابق رفض العرض التركي، فقام الأتراك باستعادة رهائنهم من تنظيم داعش تاركين الأطراف تتصارع فيما بينها. لكنهم بالمقابل قاموا بواجبهم الإنساني باستضافة 200 ألف نازح كردي دخلوا تركيا بمواشيهم وعرباتهم وأمتعتهم.

من جهته يدعو حزب الحركة القومي إلى اتباع سياسة النأي بالنفس عما يجري في سورية. لكنه بنفس الوقت يطالب الحكومة بدعم التركمان بكل الوسائل وفي مقدمتها السلاح ويتهمها بالتقصير في هذا الخصوص. ولئن صدرت عن بعض مسؤوليه تصريحات فهم منها أنهم مع ترحيل السوريين وإعادتهم إلى بلدهم، إلا أن ذلك لا يعكس رؤية الحزب وسياسته الرسمية بهذا الخصوص، بل يمكن قراءتها كرسائل في سياق الحملة الانتخابية للاستهلاك الداخلي فقط.

أيا كان شكل الحكومة، وأيا كانت أطرافها وشركاؤها فلن يطرأ تغيير كبير على سياسة الدولة التركية تجاه القضية السورية ومصير اللاجئين السوريين. إذ سيشكل الثقل السياسي لحزب العدالة والتنمية - سواء شكل الحكومة بمفرده أو بالشراكة مع غيره أو حتي لو بقي في المعارضة - صمام أمان يحول دون حدوث تغييرات جذرية في الموقف التركي الداعم لتطلعات الشعب السوري في الحرية والكرامة. علينا ألا ننسى أن دور المعارضة القوية الفاعلة النشطة في الأنظمة الديمقراطية لا يقل تأثيرا عن دور السلطة الحاكمة.

على السوريين أن يتذكروا دوما أن شعبا أصيلا لا يزال فاتحا قلبه قبل حدوده لهم، وأن  قائدا فذا وإنسانا عملاقا رهن مصيره الشخصي ومستقبل حزبه السياسي بنجاح ثورتهم ووحدة تراب وطنهم.

فهل تضيع ثورة هدفها الحرية والكرامة، وشعارها "هي لله، هي لله"، وعمقها الاستراتيجي تركيا الشعب والدولة والحكومة والقيادة؟.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس