محمود عثمان - خاص ترك برس

في كلمته عشية الانتخابات من على شرفة مبنى الحزب هنأ رئيس الوزراء ورئيس حزب العدالة والتنمية أحمد داود أوغلو جماهير الحزب المحتشدين أمام المبنى بالنصر المبين "الذي لا شك فيه ولا غبش حسب تعبيره"، حيث حصل حزبه على المرتبة الأولى بنسبة أصوات تكاد تساوي مجموع أصوات حزبي الشعب الجمهوري، والحركة القومية الذين يليانه ترتيبا.

قد يكون داود أوغلو محقا إذ أن حزب العدالة والتنمية فقد رئيسه المؤسس رجب طيب أردوغان الذي أصبح رئيسا للجمهورية، إضافة إلى تجديد ثلث مرشحيه للبرلمان بسبب مادة في نظامه الداخلي تحظر على منتسبيه الترشح لعضوية البرلمان أكثر من ثلاث دورات برلمانية، الأمر الذي أدى إلى خسارة كثير من الكوادر المؤسِسة صاحبة الكفاءة والخبرة على حساب ضخ دماء جديدة وإفساح المجال لجيل الشباب كي يأخذ دوره في إدارة الحزب والدولة. كما أن حزب العدالة والتنمية من لدن تأسيسه وحتى اليوم لم يخسر ولا دورة انتخابية واحدة، بل فاز على منافسيه في جميع الانتخابات - بما فيها الانتخابات الأخيرة الحادية عشرة – بفارق كبير في الأصوات. يبقى من نافلة القول أن نسبة 41%  تعتبر رقما قياسيا إذا ما قيس بالمعايير الغربية الأوروبية.

من جهته اعتبر حزب الشعب الجمهوري نفسه منتصرا لأنه حافظ على ترتيبه ونسبة أصواته مقابل تناقص نسبة مؤيدي حزب العدالة والتنمية!. وقد صرح رئيسه كمال كلجدار أوغلو بألا شيء يدعوه للاستقالة! رغم حصول حزبه على نسبة 25% بدل 35% النسبة التي حددها هدفا وعد به جماهير حزبه.

حزب الحركة القومي الذي أضاف إلى رصيده 27 نائبا إضافيا في عدد مقاعده في البرلمان مقابل زيادة ناخبيه  بنسبة 3.5%  فقط!. يعتبر نفسه أول الرابحين في هذة الانتخابات.

وكذلك هناك إجماع داخلي ودولي على أن الفائز الأول في هذه الانتخابات هو حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي). إذ حصل بضربة واحدة في أول انتخابات يخوضها بنفسه كحزب على نسبة 13.1% أكسبته ثمانين مقعدا في البرلمان.

مما تقدم نلاحظ أن الجميع رابح في هذه الحالة، فمن الخاسر إذا؟!

قبل البحث عن الجواب لا بد من الإشارة إلى أن الربح قد لا يأتي بالرضى، وأن معايير الربح والخسارة نسبية في العملية السياسية. فقد يحصل حزب ما على الدرجة الثالثة لكنه يكون مفتاحا لأي تشكيل للحكومة فيصبح في المرتبة الأولى من حيث الأهمية، وقد يحصل على مكاسب سياسية أكبر من حجمه بكثير. وعليه فإن أحكام الربح والخسارة تبقى مرهونة بما ستنجلي عنه الأيام القادمة من نتائج.

لكن هذا كله لم يحل دون حالة الحزن والاكتئاب التي خيمت على جماهير حزب العدالة والتنمية وسادت أوساطه، فقد كان سقف التطلعات لديهم يقضي بأن يتمكن الحزب من تشكيل الحكومة بمفره كما جرت العادة في السابق. ولئن حال الالتزام والانضباط - الموروثين عن الثقافة الإسلامية والتربية العثمانية - دون التلاوم وتوجيه النقد بشكل واضح مباشر، فإن أصواتا - لا تزال خجولة - صدرت عن بعض الإخوة الكبار (Ağabeyler) بدأت تدعو إلى التوقف مع الذات ومحاسبة النفس. فهم يعتبرون أن البقاء في السلطة مدة طويلة أصاب كثيرا من كوادر الحزب بالغرور والشطط وربما الفساد، وأن ما حدث إنما هو إيقاظ وهزة و(فركة أذن) من شأنها أن تعيد الناس إلى رشدهم. وقد يكون هذا هو مغزى استدعاء قيادة الحزب لشريحة كبيرة من مؤسساته للشورى والتباحث في نتائج الانتخابات ومآلات الأمور، فقد تم توجيه الدعوة لرؤساء البلديات ورؤساء فروع الحزب في جميع المحافظات إضافة إلى أعضاء الأمانة العامة، للتشاور من جهة ولتحمل المسؤولية واستشراف المستقبل من جهة أخرى.

هذا على صعيد الحزب الحاكم حزب العدالة والتنمية فما هي الحال بالنسبة لبقية الأحزاب؟

لا تغيير متوقعا في جهة كل من حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومي الذين يعيشان حالة استعصاء حزبي وعقم في انتاج قائد يتمتع بالكاريزما السياسية يستطيع الوقوف في وجه تغول حزب العدالة والتنمية.

يبقى الحراك الأنشط والتفاعل الأكبر على جبهة حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) الذي يبدو أنه لبس – وربما ألبس - ثوبا أكبر من مقاسه. إذ أنه أمام استحقاقات كبيرة وامتحانات كثيرة، لعل أولها الاستقلالية وأخذ زمام المبادرة ومباشرة العمل السياسي كأصلاء لا وكلاء كما جرت العادة في السابق، حيث كانت كوادر الحزب تتلقى تعليماتها من الزعيم عبد الله أوجلان القابع في السجن، ثم تناقشها مع القيادة العسكرية لمقاتلي حزب العمال الكردستاني PKK  القابعة في جبل قنديل وبعدها تتحرك في الميدان السياسي بناء على ما تم الاتفاق عليه.

لكن الانتخابات الأخيرة أفرزت وضعا جديدا مختلفا عن سابقه، لأن شرائح المتدينين الأكراد والليبراليين والإسلاميين من جماعة فتح الله غولن التي كانت لها اليد الطولى فيما حصل عليه الحزب من نتيجة لن يروق لها الطريقة القديمة في التعاطي السياسي للحزب. وستبدأ تلك القوى بالضغط على الحزب لجره إلى ساحة المشاركة الإيجابية الفعالة عوضا عن حالة السلب والعقلية المليشياوية التي كانت تميز تعاطيه السياسي.

وهنا لا بد من الإشارة إلى الاختلاف الجوهري بين كيميائية هذه الشرائح وطبيعة حزب الشعوب الديمقراطي. مما يرجح القول بأن الأصوات التي ذهبت للحزب من تلك الشرائح إنما أمانة يستردها صاحبها – حزب العدالة والتنمية – في أقرب استحقاق انتخابي.

لست من محبذي نظرية المؤامرة ولا من مروجيها لكن بعض المصادر تشير إلى تعاون قوى داخلية وخارجية على ضرب عصفورين بحجر واحد بهدف تقويض عملية "السلم الداخلي" - كما تسميها الحكومة أو المصالحة مع الأكراد كما هو شائع - من أجل ذلك تم دعم كل من الحزبين القطبين المتطرفين قوميا حزب الحركة القومي التركي وحزب الشعوب الديمقراطي فهما الذين كسبا على حساب حزب العدالة والتنمية.

بهذه الطريقة سيتم إضعاف حزب العدالة والتنمية وكبح جماحه من جهة، وتصفية الدور السياسي لعبد الله أوجلان الذي رهن مستقبله السياسي بنجاح عملية المصالحة وكان شديد الحماسة لها على أن يبقى رمزا تاريخيا مجردا من الفعل السياسي.

الجولة الأولى التي تميزت باستقطاب سياسي حاد غير مسبوق تبدو لصالح الصقور على حساب الحمائم لكن يبقى قطف الثمار في النهاية هو الأهم!.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس