ترك برس

شكلت نتائج الانتخابات التركية الراهنة، التي انتهت بفوز رجب طيب أردوغان، لحظة فارقة في مسار تركيا الراهن والمستقبلي، دولة ومجتمعا، ذلك أن استمرار حزب العدالة والتنمية في سدة الحكم هو بالضرورة استمرار للنهج الذي سلكه على مستوى الداخلي والخارجي، أي في تموقع تركيا في سياق التوتر الإقليمي والدولي والاضطراب الذي يشهده العالم وتعد تركيا عنصرا فاعلا فيه ومتأثرة به، وعلى المستوى الداخلي في استمرار عملية المصالحة لدى تركيا مع تاريخها ومنطلقاتها الثقافية والهوياتية التقليدية، ومن ثم ولادة جديدة لتركيا، عقب تركيا أتاتورك التي تركت ندوبا عميقة، لكن نتائج الانتخابات التركية في المجمل حملت عدة مؤشرات يمكن رصدها من خلال أوجه متعددة.

دلالات نتائج الانتخابات التركية

يمكن التأكيد بداية أن نتائج الانتخابات الراهنة هي في واقع الأمر ليست فوزا لطرف بعينه أو لأردوغان وتحالفه السياسي وحسب، إنما هو نجاح لتركيا برمتها في اختبار معقد ومفصلي، ونؤشر له بالآتي:

أولا: رسوخ الديمقراطية في تركيا في ظل أزمة الديمقراطية التمثيلية

شكلت مخرجات الانتخابات نجاحا للتمرين الديمقراطي، في سياق تعاني فيه الديمقراطية التمثيلية أزمة على المستوى العالمي، فقد شهدت اللحظة الانتخابية في جولتيها الأولى والثانية تنافسا ديمقراطيا حقيقيا بين القوى السياسية على أرضية مشاريع وإستراتيجيات تتعلق بالدولة والمجتمع، ويمكن القول إن الديمقراطية الناشئة في تركيا قد أصبحت أكثر رسوخا، من واقع التنافس والصراع السياسي في الدول المتقدمة نفسها، وهذا يعبر عن إرادة مجتمعية تحمل وعيا أصيلا بأهمية التنافس السياسي، وعدم الاستسلام للنزعات التي ظلت تؤثر في المشهد السياسي التركي مع الانقلابات وغيرها.

إن الوعي في واقع الأمر بأهمية الديمقراطية والصراع السياسي السلمي من خلال الأحزاب وصناديق الاقتراع يجلي وعيا مجتمعيا سيكون له تأثير ممتد في مستقبل تركيا، مما يجعلها دولة مؤسسات، السلطة فيها للرأي العام الذي يجدد إرادته كل لحظة انتخابية، مما يحمي تركيا من الانجراف نحو النزعات الشمولية أو الإقصائية، حيث يكون فيها المسؤول السياسي خاضعا للمساءلة والمحاسبة كل لحظة انتخابات، وهذا مسألة مهمة.

لقد وضعنا الديمقراطية التركية في مقابل الديمقراطيات العريقة، لعدة أسباب، إذ إن وضع التنافس والصراع السياسي في الدول المتقدمة، أصبح متأثرا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بعناصر أخرى غير سلطة الرأي العام، ونقصد بذلك لوبيات المال والشركات والإعلام، حيث تم إفراغ الديمقراطية كآلية في تدبير الصراع السياسي وإنتاج النخب المسؤولة عن إدارة الدول، من مضمونها الذي يجعل للرأي العام سلطة حقيقية في رسم مصائر المجتمع والدولة، بل يمكن القول إن الرأي العام صار ضحية للتلاعب والتأثير الناعم الذي تشتغل فيه مؤسسات وخبرات متعددة، غايتها إعادة صياغة الوعي السياسي والثقافي، بما يتلاءم والمصالح الخاصة للقوى المهيمنة.

إن حالة تركيا مع نتائج الانتخابات الراهنة، التي مرت على مرحلتين، يجعلها تقدم درسا للعالم، لا سيما أن عناصر التأثير الخارجي بفعل الإعلام الدولي، والداخلي من خلال خطاب شعبوي ولا واقعي نهجه التحالف السداسي في العلاقة باللاجئين، كل ذلك لم يكن له التأثير الفعال من الانتهاء من حالة تركيا أردوغان، بل إن نجاح حزب العدالة والتنمية وأردوغان، يقدم الديمقراطية التركية، كنموذج سياسي تعددي خلاف ما ظل يتهم به الزعيم التركي وحزبه، كما أنه انتصار للعقلانية السياسية على حساب الحشد العاطفي، الذي حاول أن يخلق انقساما على مستوى المجتمع.

ثانيا: إمكانية التأسيس لتركيا جديدة خلفا لتركيا أتاتورك

يعد فوز أردوغان إعلانا صريحا بولادة تركيا الجديدة خلفا لتركيا الحديثة التي يعزو فيها فضل التأسيس لكمال أتاتورك، ذلك أن التحول الهادئ أو التغير الذي تم على مراحل داخل النسق السياسي، والذي انتهى بتعديل طبيعة النظام السياسي إلى النظام الرئاسي مع أغلبية برلمانية مريحة، مما سيعجل بإعلان خروج تركيا من عباءة التأسيس على عهد كمال أتاتورك، ويمكن القول مع بعض التحفظ، إن منتهى نهج أردوغان وغايته تهدف إلى الخلع الكلي للعباءة التي ارتدتها تركيا مطلع القرن العشرين، مع خيار أيديولوجي ترسخت فيه معالم القطيعة مع تركيا العثمانية بإرثها الثقافي والهوياتي والتاريخي، وعلائقها الحضارية مع الشرق.

تلك العباءة التي حظيت بحماية الجيش والقضاء والقوى السياسية الأيديولوجية المرتبطة بها، والتي تغالي في تقديس الأسس التي انبنت عليها تركيا أتاتورك، قد لا يبدو ذلك الاختلاف في الرؤى بشكل حدي داخل المجتمع والسياسة التركية مع رموزها، لكن الديناميات التي مر بها المجتمع التركي طيلة العقدين الماضيين، وما تحمله التجارب من أحداث مع عدنان مندريس ونجم الدين أربكان، يجعل النخبة الحالية تستبطن هذا الوعي، وتحمل أهداف البناء الجديدة، لكن أهمية الانتخابات الراهنة كانت تحمل الإعلان الصريح لتركيا الجديدة، في وجهتها السياسية والحضارية والثقافية بأدوات السلطة، لكن دون إغفال الوسائط الثقافية التي ظلت تؤسس للنموذج الجديد، والتغيير الثقافي بطبعه بطيء وممتد في الزمن، ويشتغل بمنطق يختلف عن الآليات والديناميات السياسية.

يمكن القول بإيجاز إن اللحظة الراهنة هي أكبر انتقال تعرفه تركيا على مستوى النسق السياسي والثقافي أولا، ثم في الجوانب الثقافية والحضارية والإستراتيجية فيما له صلة بمشاريع التنمية والنهوض في جوانبه العلمية على المستوى الداخلي، وموقع تركيا في التوازنات الدولية، تلك الجوانب قد أشرنا إليها في المقالة السابقة. بما يعبر عنه بإعادة بناء الذات وبتموقع تركيا من النظام العالمي.

ثالثا: فوز أردوغان.. الحذر من أجل المستقبل

إن نجاح أردوغان تم في سياق معقد على المستوى الداخلي والخارجي، وفي سياق تمرين ديمقراطي، يوجد بالفعل للكاريزما فيه تأثير وحسن إدارة الصراع مع الخصوم بدهاء وإستراتيجيات تعمل على الإنهاك البطيء، لكن أردوغان هنا لم ينجح بمنطق المخلص، وهذه إحدى السمات الإيجابية في المشهد السياسي التركي وما أفرزه من تجليات ونتائج للصراع والتنافس، ومن ثم فإن أهمية النتائج الراهنة قد عكست جانبا من التنافس الحاد، الذي جعل نسبة النجاح تقارب 53%، وهي كسائر الديمقراطيات العريقة، لكنها في الآن نفسه تحمل تنبيها لأردوغان وحزبه بضرورة مراعاة الديناميات الاجتماعية والرأي العام في بعض القضايا، وبالأخص فئة الشباب التي تحتاج خطابا جديدا، وتحمل وعيا يختلف عن الفئات التي جايلت لحظات الانقلابات والأزمات الاجتماعية التي عاشتها تركيا بفعل تدخل الجيش في السياسة أو بفعل التدخلات الخارجية.

رابعا: تركيا ومشروع الاستقلال الوطني

إن ما أفرزتها الانتخابات الراهنة سيرسخ المحاولات التي ظلت تتأرجح تركيا على واقعها في مساعي الاستقلال واستعادة السيادة والقرار الوطني، وظلت واقعة تحت ضغط القوى الكبرى في جملة من التزاماتها، إن مسار الديمقراطية الطبيعي وتعبير الإرادة الشعبية يتجه إلى الاستقلال الفعلي ورفض كل أشكال التحجيم التي مرت منها تركيا، ومن ثم سنرى فعالية تركيا على المستوى الإقليمي والدولي، وقد أعادت تركيا علاقاتها على أساس التوازن مع الغرب والشرق، دون أن يمس ذلك في مساعيها لبناء رؤيتها بشكل يحفظ مصالحها واستقلالها، وهو ما سيستمر في الأمد المنظور، في سياق دولي مضطرب.

ختاما: لقد شكل فوز أردوغان في الانتخابات الراهنة انتصارا للواقعية والعقلانية السياسية، وهي ليست وليدة اللحظة الراهنة، وإنما هي تعبير عن نهج أردوغان السياسي منذ ظهور حزب العدالة والتنمية في المشهد السياسي التركي، والواقعية التي نهجها أردوغان، لا تعني الاستسلام، بقدر ما تعني إدارة الصراع السياسي على المستوى الداخلي والخارجي بكثير من الدهاء، والقدرة على مبارزة الخصوم السياسيين والإستراتيجيات المضادة بأدوات الحجاج والخطابة السياسية، لكنها خطابة بمقدار ما يبرز معها من كاريزما، فهي في الآن ذاته تحمل أدوات ناجعة على المستوى الواقعي.

إننا في واقع الأمر أمام حالة سياسية في العالم استطاعت البقاء في السلطة قرابة عقدين دون أن تتأثر كلية على مستوى الحاضنة الشعبية، وهذا يعكس حالة ثقة مجتمعية في الخطاب السياسي الذي نهجه أردوغان، وكذلك على مستوى الممارسة في إدارة شؤون السلطة والحكم، وما يرتبط بالجانب التنموي، ومن ثم فإن المؤشرات المعبر عنها، أو الدلالات التي تستبطنها الانتخابات الراهنة، هي تعبير عن وعي مجتمعي، مما يجعل تركيا في واقع الأمر دولة ومجتمعا انتقلت إلى عهد الاستقرار السياسي والمؤسساتي، بل إلى النهضة الفعلية.

إن تركيا الآن شمعة من الشموع التي أضاءت عالم الشرق، الذي ظل مجالا للتدخلات الخارجية، ويرمز له بالتخلف، والابتعاد عن روح العصر السياسي والثقافي. يمكن القول الآن إن تركيا خير تعبير عن روح وقيم العصر السياسية، وهو ما سيجعلها تنتقل بسرعة لتحصين موقعها على مستوى العالم الذي ظل يتابع الانتخابات عن كثب، وكذلك في إعلان جديد لتركيا بعمقها الحضاري والتاريخي.


**مقال تحليلي بقلم الباحث السياسي المغربي يحيى عالم، نشره موقع الجزيرة نت.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!