علي أبو هميلة - الجزيرة مباشر

شعرت وكأن يدا حانية تقترب منه بهدوء ولطف لتضع بسمة واسعة على قلبي، القاعة الصغيرة صارت ساحة كبيرة وكأنه مسرح كبير في ميدان واسع بإحدى المدن العربية، دفء عال يحيط المكان والقلوب التي تردد وراء المغني بيسر وبساطة أغنياته التي يغنيها بنفس يسر غناء جمهوره.

المكان يشبه إلى حد كبير ساقية الصاوي على كورنيش الزمالك بالقاهرة، القاعة الصغيرة صارت حالة من السعادة والبهجة، والقلوب التي تصدح بغناء عربي مصري صارت يدا حانية ترسل محبتها إلى المغني، بينما يرسل إلينا طاقة من البهجة والمحبة والسعادة، شعرت بحالة من النشوة لم أشعر بها طوال سنواتي هنا، وطلت حالة من سعادة العيد والطفولة في عيوني، وأنا أردد مع الجمهور وصديقي المغني المصري أسامة حجاج الذي يتألق في الليلة الثالثة من ليالي عيد الأضحى في إسطنبول:

ولو في يوم راح تنكسر.. لازم تقوم

واقف كما النخل باصص للسما

ولا انهزام ولا انكسار

ولا خوف ولا حلم نابت في الخلا

كلمات كوثر مصطفى الشاعرة الصديقة المتألقة يغنيها أسامة وكأنه لم يُغنّ منذ سنوات طوال، أما الجمهور في القاعة فكان أغلبه من الإخوة السوريين، وتألقوا كورالا عربيا رائعا خلف أسامة، أما التعبير الأجمل على صوت حجاج فكان من صديقي القاهري حينما سمع صوته عبر الهاتف “إنهم يقتلون الجمال من جذوره” تعبيرا عن الجمال العربي المهاجر تحت وطأة استبداد الأنظمة العربية.

تلقيت دعوة أسامة حجاج صديقي منذ بداية التسعينيات، والصوت الذي كان محل إعجاب كبار الشعراء والملحنين الذين توقعوا صوتا عربيا دافئا تملؤه الثقة والإحساس سيشق طريقه يقدّم أغنية جديدة، وقدّم في وقت مبكر من عمره أول ألبوم غنائي مع إحدى كبرى شركات إنتاج الكاسيت في مصر، تلك الشركة التي كانت تنتج لأحد كبار المطربين، ويبدو أنه كان صاحب يد في توقف الألبوم لصاحب الصوت الذي كان يقدّم تجربته الأولى بمصاحبة شعراء وملحنين كبار مثل فاروق الشرنوبي الذي كان يرعاه ويتبنى صوته، وأحمد الحجار وجمال بخيت ورياض الهمشري وغيرهم، أدخلت الشركة الألبوم الأول ثلاجة التواطؤ ثلاث سنوات، ويبدو أن حالة من الانكسار أصابت أسامة.

التجارب بعد انكسار اللقاء الأول محزنة ومؤثرة في مشاعر الفنان، وصارت له تجارب عديدة ولكن انطفأ شيئا ما، الليلة استعاد أسامة هذا الشيء المفقود، غنى مع جمهور في القاعة السورية الإسطنبولية كأنه يغني في العشرين من عمره، طوال خمس سنوات ماضية كنا نلتقي في البداية بشكل مستمر، فقد كنا ننوى ترك المجالين، هو الغناء والتقديم التلفزيوني الذي عمل به في إسطنبول، وأنزوي أنا بعيدا عن السياسة والعمل الإعلامي سواء في مصر أو تركيا، ولم نستطع إكمال مشروع “الكافيه العربي”.

أصبحنا نلتقى على فترات نستمتع معا بلقاء الشعر والغناء، في كل مرة كنت أشعر بهذا المفقود داخل قلبه، ونويت أن أسهر الليلة الثالثة للعيد أستمتع بغناء ابن حجاج، شجعني هو أن المكان سيكون محل إعجابي، ورغم أن ذلك حقيقي فإن هناك شيئا آخر كان حافزي، أريد أن أستمع لغناء بديل.

لم تكن استعادة أسامة نفسه وروحه، وهذه الحالة من نشوة الغناء التي تدفأت بها القاعة فقط هما المفاجأة الجميلة، بل إن حفل صديقي الأول في إسطنبول حمل معه ثلاث مفاجآت عربية، الشاعر السوري محمد باجي حبيب الذي قدّم معه حالة من الأشعار بمصاحبة غناء حالة شعرية غنائية فريدة.

تذكرت معهما سهرات في بداية التسعينيات، شاركت فيها شعراء وملحني جيلي سهرات يومية كانت تمتد بنا إلى مطلع الفجر، كان معنا فيها الشعراء أحمد بخيت وأحمد مرزوق وعبد المنعم طه ومصطفى البحر وخالد أمين، والملحنون أكرم مراد ومحمد الشاذلي وعلي إسماعيل ومحمد عزت وحاتم عزت، والعشرات من الشعراء والصحفيين والملحنين والمغنين، وكان الجميع يقدّم أحلام جيل للوطن، تلك الحالة والأحلام التي أعادني إليها السوري محمد باجي حبيب والمصري صديق العمر، فصرت أتراقص على ساحل البوسفور كما كنا نفعلها ونحن نسير في شارع الأزهر لنصل إلى الحسين قبل الفجر.

افتح لها شباك قلبك كي تغادر طائرا

قد فر من قفص

ستخرج من مسامك ربما

أو ربما من ضلعك المفقود

من دمك المعطر باسمها

وافرد لها كفيك

إن رفضت رجوعا سوف يقتلك الرحيل

هكذا يشدو الشاعر فيلاقيه المغني في امتزاج رائع بين المشاعر والعود العربي بيد أسامة يصاحبه وصديقه الشاعر السوري:

بتحمّل لاجلك فوق طاقتي

وبشوفك في الجدران طاقتي

وبحبك من قلبي بحبك

ونقشت حروفك في بطاقتي

ما زلنا في تلك الحالة من النشوة التي تخيلتها يدا حانية من السماء تطبطب على قلب المغني الذي رحل قسرا عن وطنه منذ تسع سنوات، وتضع بسمة واسعة على أهل بيته، ابنتيه وولده الصغير وزوجته، لا شك أنهم تحملوا في غربتهم الكثير، وعانوا في أجواء غير صحية من معاملة الغرباء الذين كانوا يظنون قربهم، فكانت تلك الفرحة في عيون رباعية أسرة صديقي المغني صاحب الصوت الدافئ.

طبطبة اليد الحانية تجيء دائما في موعدها، حينما يشتد ألمك تأتي الرحمة، عندما تضيق جدّا تُفرج، يا لها من دقة موعدها، وصدق الله العظيم حين يقول: {حتى إذا استيأسَ الرسلُ وظنوا أنهم قد كُذِبوا جاءَهم نصرنُا} فما بالك بهذا النصر وهذه الرحمة التي يمنحها الله لعباده، هكذا ربما بعد ضيق جاءت له تمسح كثيرا من أحزان غربتنا، كما مسح هو حزنا يغلف قلبي ومن بالقاعة.

أمتعنا رفاق أسامة، الشاعر السوري محمد حبيب، وعازف الجيتار عمر الكيلاني، وعازف العود أيضا الذي قدّم في القاعة الخارجية بعد الشعر مجموعة متنوعة من الأغاني العربية الأصيلة لأم كلثوم ومحمد عبد المطلب ومحمد فوزي، وغنى معه كل الحضور الغالب عليه السوريون، أما عمر الكيلاني فقد قدّم مقطوعة موسيقية على الجيتار، وصاحبهما أسامة في إبحار غنائي مصري من الأرض بتتكلم عربي، عليّ صوتك بالغنا، عود، عدى النهار، ضل الطريق بينا، من أول لمسة، طريق الأحباب، بنتي، وإن ما قدرتش تضحك.

أنا مش عاشق ضلمة.. ولا زعلت الضي

مسير الضي لوحده ها يلمع

مسير الضحك لوحده ها يطلع

ما بيجرحش ولا يأذيش.

عن الكاتب

علي أبو هميلة

إعلامي مصري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس