محمود علوش - ديلي صباح
مع تصاعد حدة الاضطرابات الإقليمية الناجمة عن الحرب الإسرائيلية على غزة، التي أطلقت العنان لحقبة جديدة من صراع الوكالة بين إيران من جهة والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى، فإن البيئة الأمنية الإقليمية الجديدة تخلق تحديات إضافية على القوى الإقليمية الأكثر تضرراً من هذه الاضطرابات على رأسها تركيا ومنطقة الخليج ومصر.
رغم أن الارتدادات الأمنية لحرب غزة على تركيا تبدو أقل حدّة مقارنة بما هو عليه الحال بالنسبة لمنطقة الخليج ومصر، إلآّ أنها تبقى عرضة لآثارها بأشكال مختلفة. وبالطبع يبرز خطر الإرهاب في مقدمة هذه الآثار.
لذلك، ينبغي النظر إلى تصعيد منظمة "بي كا كا" الإرهابية من هجماتها ضد الجيش التركي في شمال العراق من منظور آثار الفوضى الإقليمية الناجمة عن حرب أكتوبر قبل النظر إليه من منظور صراع تركيا ضد الإرهاب بحد ذاته. حقيقة أن المنظمة الانفصالية استفادت إلى حد كبير من الصراعات التي شهدتها سوريا والعراق منذ مطلع العقد الماضي لتعزيز وجودها في هذين البلدين، تجعلها تنظر إلى الاضطراب الإقليمي الجديد على أنه فرصة جديدة لتعزيز لإعادة تشكيل نشاطها المسلح ضد الدولة التركية.
مع ذلك، فإن قدرة المنظمة على الاستفادة من هذا الوضع لإعادة تشكيل تمردها ضد تركيا لا تزال محدودة. فإلى جانب القدرات العسكرية والاستخباراتية التي طورتها تركيا على مدى عقود ومكنتها من تقويض قدرة التنظيم على تشكيل تهديد لها، فإن وجودها العسكري في شمالي سوريا والعراق لا يزال يُشكل عقبة أساسية أمام المنظمة لإعادة إنتاج نفسها والتعافي من الخسائر الكبيرة التي مُنيت بها في السنوات الأخيرة. رغم ذلك، لا ينبغي أن يدفع ضعف منظمة "بي كا كا" تركيا إلى الشعور بالرضى عن النفس لأن هذه المنظمة تُحاول الاستفادة من هذه البيئة الأمنية الإقليمية المضطربة لجذب الانتباه وإظهار أنها لا تزال قادرة على تشكيل تهديد لتركيا. كما أنها لا تُقاتل من أجل مشروعها الانفصالي فحسب، بل أيضاً بالوكالة عن دول تستخدمها لأجل إبقاء تركيا منهكة في حربها على الإرهاب وجعلها لاعباً أقل تأثيراً في الجغرافيا السياسية الإقليمية التي يُعاد تشكيلها في الشرق الأوسط. إن الدعم التي تحظى بها المنظمة وفرعها السوري "واي بي جي" من قبل الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية لا يُخفيه تصنيفها على قائمة الإرهاب لدى هذه الدول.
لذلك، لا ينبغي النظر إلى تصاعد هجمات "بي كا كا" ضد تركيا منذ بداية أكتوبر على أنه يندرج فحسب في إطار الفرص التي يجدها التنظيم للاستفادة من الفوضى الإقليمية بقدر ما أنه أيضاً يعكس وظيفية التنظيم في استراتيجيات الدول التي تدعمه بشكل مباشر أو غير مباشر أو تلك التي تُحاول الاستفادة من حالته في إطار منافستها الإقليمية مع تركيا. حقيقة أن حرب غزة وتداعياتها الإقليمية أتاحت لكل من الولايات المتحدة وإيران لاستعراض قوتهما الإقليمية تؤدي إلى تشكيل بيئة أمنية إقليمية جديدة تُضعف إلى حد كبير رغبة تركيا والقوى الأخرى المعنية بالاستقرار الإقليمي في التركيز على سبل إنهاء الصراعات المزمنة التي تعصف بالمنطقة وتشكيل إطار إقليمي أكثر قدرة على مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية والإنسانية التي تواجه الشرق الأوسط. إن تصعيد استراتيجية تركيا لمكافحة الإرهاب في شمالي سوريا والعراق، سيُصبح أكثر فعالية مع تركيز أنقرة على التعاون مع دول المنطقة المتضررة أيضاً من هذا الإرهاب لتقويض قدرة منظمة "بي كا كا" على الاستفادة من الوضع الراهن لتجديد نشاطها الإرهابي في سوريا والعراق.
وإلى جانب خطر الإرهاب، فإن حرب السابع من أكتوبر عملت على خلق حالة جديدة في الشرق الأوسط تُقوض إلى حد كبير الفرص التي خلقتها عملية خفض التصعيد الإقليمي بين القوى الفاعلة في السنوات الثلاث الماضية. وهذا الوضع يفرض على أنقرة والقوى الأخرى المعنية بتحقيق الاستقرار الإقليمي مثل دول الخليج ومصر رفع مستوى تفاعلاتها الجديدة إلى تنسيق أكبر في السياسات الإقليمية للحد من ارتدادات هذه الاضطرابات عليها وعلى مصالحها والحيلولة دون جعل مستقبل الشرق الأوسط مرّة أخرى رهينة لصراع الوكالة بين كل من إيران والولايات المتحدة وإسرائيل. حتى لو كان تركيا أقل تأثراً بالحرائق التي تنتشر في أرجاء الشرق الأوسط، فإنها لن تكون قادرة على تحصين نفسها من آثارها في المستقبل. وبقدر ما أن الحرب الإسرائيلية على غزة ساهمت إلى حد كبير في إعادة إشعال صراع الوكالة في الشرق الأوسط، فإن استراتيجية تركيا والقوى المعنية بالاستقرار الإقليمي في التعامل مع هذا الوضع يجب أن تأخذ بعين الاعتبار بأن هذا الصراع كان قائماً قبل فترة طويلة من حرب السابع من أكتوبر وبأن الحرب كانت سبباً في إعادة ظهوره.
لقد أصبح من الواضح أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة أو راغبة أو كليهما معاً في مواصلة لعب دور يؤدي إلى تعظيم فرص الاستقرار في الشرق الأوسط. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية واحتمال عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، على القوى المعنية بالاستقرار الإقليمي استباق الآثار الكبيرة لأي تحول سياسي أمريكي على الشرق الأوسط، للاعتماد على نفسها وعلى تفاعلاتها الجديدة بقدر أكبر لإدارة قضايا الشرق الأوسط والعمل على الحد من انجرافه نحو المزيد من الفوضى. ورغم أهمية التناغم في سياسات تركيا ودول الخليج ومصر في الموقف من الحرب الإسرائيلية على غزة وفي النظرة إلى كيفية معالجة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من جذوره، فإن حقيقة أن صراع الوكالة بين إيران وكل من الولايات المتحدة وإسرائيل سيبقى قائماً حتى لو انتهت حرب غزة، تفرض الحاجة إلى التعاون الجماعي بين الدول المعنية بتحقيق الاستقرار الإقليمي وإظهار معارضتها الواضحة لتحدي منطق صراع الوكالة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس