يوسف قابلان - يني شفق

لا تعزى سيطرة الغرب على العالم إلى تفوقه في مجالات العلوم والفكر والفنون، كما يظن بعض الحمقى والطفيليين. فهيمنة الحضارة الغربية على الصعيد العالمي تعود إلى عدوانيتها المزدوجة.

لم يهيمنوا على العالم لأنهم يمتلكون فكرا أو نموذجا مثاليا للحضارة، أو لأن لديهم تصورا أعمق للوجود أو إدراكا للمعرفة والحقيقة. ولم يحكموا العالم لأنهم كانوا متحضرين، بل على العكس تماما، لأنهم كانوا همجيين ومعتدين ونهابين ولصوصا وكاذبين.

لقد احتلوا جميع القارات، ونهبوا ثقافاتها، وأهانوا شعوبها عبر خلق قداسة علمانية جاذبة كـ "المهمة الحضارية"، واغتصبوا وقتلوا جماهيرا بأعداد هائلة. لقد نهبوا ودمروا جميع حضارات وثقافات وأديان العالم بأسره، وحولوها إلى حطام لا يمكن التعرف عليه. وعلاوة على الهجوم المادي والاعتداء والاحتلال والنهب قاموا أيضا بعملية نهب واعتداء وتدمير ذهني وروحي وفكري.

ملخص القول: إن الحضارة الغربية تشكل اعتداء على الإيمان الإلهي وعلى الإنسانية والطبيعة وعلى تراكمات الحضارة والثقافة والفكر لدى البشرية. ولا أشك أنني سأتعرض لانتقاد شديد بسبب هذا الكلام، فمثقفو تركيا العلمانيون المساكين البائسون، الذين يقدسون الغرب أكثر من الغربيين أنفسهم ويعشقون جلادهم، سيسخرون من فكرة سيطرة الحضارة الغربية على العالم من خلال عدوانيتها.

فكما أوضح المؤرخ الكبير المعاصر أرنولد توينبي، وهو معجب كبير بابن خلدون، في كتابه الضخم "دراسة التاريخ" المكون من عشرة مجلدات، الذي قال فيه "خلال ثلاثة قرون فقط، قضينا على 16 من أصل 26 حضارة شهدتها البشرية، وحولنا 9 حضارات أخرى إلى مجرد بقايا متحجرة."

الفاعلان الرئيسيان للنظام العالمي: البريطانيون واليهود

سيطرت الحضارة الغربية بشكل قاطع على العالم بعد الحربين العالميتين. وعندما أتحدث عن الحضارة الغربية، فأنا أشير إلى فاعلين رئيسيين: اليهود والبريطانيون. وما أسميه الحضارة الغربية هو في الواقع النظام العالمي بحد ذاته. لقد أسست بريطانيا النظام العالمي، وكانت هي الفاعل الوحيد وراء الثورات السياسية والاقتصادية.

هيمنت بريطانيا على النظام العالمي في القرن التاسع عشر. لكن سرعان ما سيطر اليهود على النظام العالمي الذي أسسه البريطانيون. لقد سيطروا على أمريكا، وعلى جميع مؤسساتها وخاصة مؤسساتها المالية، وبعد الحربين العالميتين، أزالوا ألمانيا أي أوروبا من قائمة المنافسين، وأطفؤوا نجم بريطانيا بعد الحربين العالميتين.

لم يكن بالإمكان إنشاء النظام العالمي لولا سقوط الدولة العثمانية

يعود الفضل في الهيمنة العالمية التي حققها كل من البريطانيين والصهاينة إلى إيقافهم الحضارة الإسلامية. لقد تعاونوا على إخراج الدولة العثمانية من مسار التاريخ من خلال هدمها من الداخل. ومع نهاية الدولة العثمانية، توقف التاريخ العالمي من جانب واحد، وبدأ البريطانيون واليهود في أمريكا في صنع التاريخ وحدهم.

لقد نفذوا العديد من المشاريع على المدى الطويل في العالم الإسلامي، وتصدرت "المسألة الشرقية" قائمة هذه المشاريع، والتي تضمنت هدفين أساسيين: الأول: إقصاء الإسلام (كحضارة فاعلة تصنع التاريخ) من مسرح التاريخ. والثاني: إبعاد المسلمين عن الإسلام. حققوا النجاح في مشروعهم الأول من خلال تدمير الدولة العثمانية، وتفكيك الهند والعالم العربي والتركي.

وأما المشروع الثاني، فقد طوروا استراتيجية ثيوقراطية سياسية خبيثة، حيث اختلق البريطانيون الوهابيةَ أولا، وزرعوا بذور السلفية الجديدة ومنظمات الإرهاب بالوكالة. ثم أوجدوا ممثلين لتنفيذ مشروع "الإسلام المعتدل" مثل القاديانية في الهند و تنظيم "غولن" الإرهابي في تركيا. وسعى البريطانيون من خلال ذلك إلى زرع الكراهية للإسلام في الجماهير أولا، ثم محاولة إبعاد الإسلام عن الحياة من خلال تحويله إلى بروتستانتية وعلمانية، وسلب روحه وجوهره. كان هدفهم الأساسي هو خلق "مسلمين مشوهين". وقد نجحوا في ذلك إلى حد كبير.

للشيعة دولة لكن أهل السنة ليس لديهم دولة

إن هذا من أخطر المشاريع التي دخلت حيز التنفيذ منذ حوالي نصف قرن. يهدف هذا المشروع إلى إثارة الصراع بين العالم السني والشيعة! أي إثارة الفتنة بين تركيا وإيران؟

لماذا تركيا؟

لأنها تعد مركزا أساسيا للعالم السني، حيث قامت بتأسيسه وحمايته لألف عام. لكن هناك مشكلة فتركيا تمثل المذهب السني تاريخيا، لكنها رسميا ليست دولة مسلمة بل دولة علمانية. وفي المقابل إيران ليست دولة علمانية.

أود أن أؤكد على هذه النقطة: للشيعة دولة، ولكن أهل السنة ليس لديهم دولة تمثلهم. هذه الحقيقة المخيفة ستشكل القرون القادمة. وأود أن ألفت انتباهكم بشكل خاص إلى نقطة مهمة، تنفذ كل من تركيا وإيران مشروع التحديث منذ قرنين من الزمن. وتلعب بريطانيا دورا نشطا في مشاريع التحديث في كلتا الدولتين. فبريطانيا هي القوة الوحيدة التي تقف وراء عمليات التنظيمات والملكية الدستورية وعملية التغريب في الجمهورية التركية.

هناك فرق مهم للغاية بين التحديث الإيراني والتحديث التركي، فقد قاموا بتحديث إيران دون المساس بنظام التعليم الإسلامي الشيعي وأبجديته. أما تركيا فعندما دخلت في عملية التحديث تم إلغاء الأبجدية ولم يتبق أي أثر من النموذج التعليمي الإسلامي السني. وسمحوا بإجراء ما يسمى بالثورة الإسلامية في إيران، مما مهد الطريق أمام إيران لغزو العالم الإسلامي بأسره.

قادوا تركيا إلى العلمانية وأبعدوها عن جذورها الإسلامية ومطالبها الحضارية؛ وبذلك أزالوا أكبر عقبة أمامهم، وهي عقبة عمرها ألف عام.

ثانيا، لم ينشئوا الدولة الإسلامية المزعومة في العالم السني، بل في إيران الشيعية، ومهدوا لها الطريق لتغزو العالم الإسلامي من العراق إلى اليمن خطوة بخطوة. لقد احتلوا كل مكان، وسمحوا لإيران بإنتاج التكنولوجيا النووية -وإن كانت خاضعة للرقابة- ويسعون جاهدين لمهاجمة تركيا.

تدرك تركيا تماما كيف تم تمهيد الطريق أمام الإمبريالية الفارسية والتوسع الشيعي لإيران ونشر المذهب الشيعي، وكيف يتم استخدامها لتحويل العالم الإسلامي إلى جحيم. لذلك، لن تقدم تركيا على الدخول في صراع مباشر مع إيران، لكنها ستتخذ خطوات حاسمة على المدى الطويل لكبح جماح التطلعات الإمبريالية والتوسعية في المنطقة. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال طريق واحد: تحرير تركيا من قيودها واستعادة مطالبها الحضارية التي يحتاجها العالم بشدة.

لا بد أنكم تدركون الآن، أن الإمبريالية تحافظ على هيمنتها العالمية من خلال استغلال تركيا العلمانية التي تخلت عن طموحاتها الحضارية، وإيران الشيعية التي تحاول بكل السبل إغراق العالم الإسلامي في بحر من الدماء

لكن هذا الوضع لن يستمر. فلن تسمح تركيا لإيران بتطويقها، إما أن تعيد تركيا إحياء مطالبها الحضارية وتبدأ مسيرة تاريخية جديدة، أو ستغرق في قيودها، وتُطرد من التاريخ لا قدر الله.

والسلام.

عن الكاتب

يوسف قابلان

كاتب تركي