
ترك برس
استعرض تقرير للخبير والمحلل التركي سلجوق تورك يلماز، الكلمة المثيرة للجدل التي ألقاها الاقتصادي الأمريكي جيفري ساكس في منتدى أنطاليا الدبلوماسي، والتي وجه فيها اتهامات صريحة للولايات المتحدة وإسرائيل بالتسبب في إشعال حروب متتالية في الشرق الأوسط.
ويناقش التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق خلفيات استضافة ساكس، وأهمية تصريحاته في كسر السرديات التقليدية السائدة داخل تركيا، خاصة فيما يتعلق بدور "القوى الخارجية" وعلاقة إسرائيل بالولايات المتحدة.
كما يتناول الكاتب الفجوة بين رؤية ساكس والتحليلات الشائعة في تركيا، داعيًا إلى مراجعة فكرية معمقة لسؤال "لماذا؟" الذي تجاهلته الخطابات المحلية طويلاً. وفيما يلي نص التقرير:
أثارت كلمة الاقتصادي الأمريكي جيفري ساكس في منتدى أنطاليا الدبلوماسي اهتماماً كبيراً. فقد سبق لساكس أن أطلق تصريحاً مماثلاً مطلع هذا العام وصف فيه نتنياهو بأنه "شخصية مظلمة عميقة تدفع بالولايات المتحدة إلى حروب لا تنتهي في الشرق الأوسط". ولم يتردد في استخدام عبارات قاسية بحق نتنياهو. وكما هو معروف، قام ترامب بنشر ذلك التصريح آنذاك. وعلى الأرجح أن ساكس قد دُعي إلى أنطاليا على خلفية ذلك التصريح. ولا بد من تهنئة القائمين على الدعوة بهذه الخطوة، ونأمل أن تتوالى في المستقبل دعوة شخصيات مؤثرة من هذا النوع إلى تركيا، حيث يكتسب حديثهم هنا أهمية خاصة. فخلافاً للصورة النمطية، تحتل تركيا اليوم صدارة الدول التي وصلت فيها حرية الفكر والتعبير إلى أوسع حدودها، بينما تشهد دولٌ كانت تُضرب بها المثل سابقاً تراجعاً كبيراً في حرية التعبير حول أبسط القضايا. وعلى أمثال ساكس أن يدركوا أنهم يستطيعون التحدث بحرية في تركيا، ويمكن اعتبار كلمته في المنتدى مثالا على ذلك. فقد قال ساكس، في إحدى الجلسات، ما يمكن تلخيصه على النحو التالي:
"لقد أشعلت الولايات المتحدة الحرب في سوريا. وكان نشوب مثل هذه الحرب رغبة الولايات المتحدة وإسرائيل. ولهذا السبب قاموا بتخريب جميع المفاوضات مع الأسد. كان نتنياهو يخطط لتشكيل الشرق الأوسط بأكمله. وكانت وكالة المخابرات المركزية والحكومة الأمريكية صديقتين لنتنياهو. قُتل مئات الآلاف من السوريين جراء الحرب التي استمرت 14 عامًا. والحرب السورية ليست سوى واحدة من ست حروب دفعت إسرائيل إلى إشعالها. والحروب الأخرى كانت في لبنان، والعراق، وليبيا، والصومال، والسودان. وكانت الولايات المتحدة على علم بذلك. وكانوا يريدون حربًا في إيران أيضًا. كانت حرب سوريا مجرد جزء من هذه الحروب. إن حكومة الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل مسؤولتان أيضًا عن الحرب في الضفة الغربية وغزة."
وقد صرح جيفري ساكس في تتمة حديثه بما يلي: "إسرائيل لا تستطيع الاستمرار في هذه الحروب دون دعم الولايات المتحدة. وإذا استمرت الولايات المتحدة على هذا النهج، فلن يسود السلام في هذه المنطقة. ولتحقيق السلام، يجب على شعوب المنطقة أنفسهم أن يقرروا مستقبل هذه المنطقة، وليس القوى الخارجية. فحروب إسرائيل التي لا تستطيع إسرائيل خوضها ولو ليوم واحد بمفردها، هي في الحقيقة حروب أمريكية، تمدها واشنطن بالمال والجنود والمعلومات والأسلحة. ولولا هذا الدعم، لما تمكنت إسرائيل من ارتكاب المجازر والإبادة الجماعية في غزة. هذا الدعم لا يقتصر على السياسة، بل يتجسد في مشاركة فعلية ومباشرة في العمليات العسكرية بالتعاون مع إسرائيل."
إن أفكار جيفري ساكس تتعارض مع الآراء السائدة في تركيا. فالقول إن إسرائيل عاجزة عن التحرك دون دعم أمريكي يتناقض مع قناعاتنا الراسخة. فالسائد في تركيا هو أن إسرائيل ورأس المال اليهودي يهيمنان على الولايات المتحدة والغرب. بينما يرى ساكس أن تحقيق السلام في الشرق الأوسط يتطلب انسحاب القوى الخارجية، خاصة الولايات المتحدة. في حين أن الرأي العام لدينا يدعونا إلى تحميل أنفسنا المسؤولية وينفي وجود "قوى خارجية"، ويعتبرها مجرد أوهام نبتدعها في مخيلتنا.
كما أن قول ساكس إن حروب لبنان والعراق وليبيا والصومال والسودان وسوريا والضفة الغربية وغزة هي حروب أمريكية، يتعارض مع الفكرة السائدة في أوساطنا بأن الأوروبيين والأمريكيين مجبرون على دعم إسرائيل لأنهم مدينون لليهود. هذا التناقض الفكري يستدعي حتماً تناول وجهتي النظر المنفصلتين المتعارضتين بكل جوانبهما.
إن الآراء السائدة في تركيا، على عكس ما يُدعى، هي نتاج عقل منفصل عن الواقع. وبينما يقولون إنه يجب أن نكون واقعيين، فقد استسلموا دون وعي للتحيزات. ونتيجة لذلك، أرادوا إجبار تركيا على الانصياع لدولة صغيرة حقًا مثل إسرائيل. ووفقًا لهم، فإن اليهود مجتهدون وناجحون، وبتفوقهم هذا استطاعوا أن يسيطروا على أوروبا وأمريكا. أما المسلمون، فيجب أن يفتّشوا عن أخطائهم في ذواتهم، لا أن يُحمّلوا المسؤولية لما يسمى بالقوى الخارجية.
لكن إذا رضخنا مجددًا لهذه القراءة السائدة لدينا، فلن تكون هناك حاجة لطرح السؤال الجوهري: "لماذا؟" فالإجابة على هذا السؤال واضحة بالفعل. غير أن مداخلات وتحليلات رجال مثل ساكس تظهر لنا أننا بحاجة إلى طرح سؤال "لماذا؟" مجددا؛ لماذا تدعم الولايات المتحدة وأوروبا إسرائيل؟ ولماذا يرى اليهود الصهاينة أنفسهم طليعة الحضارة الغربية في شرق المتوسط؟ ولماذا جر الغرب اليهود إلى حروب لا نهاية لها؟ ولماذا لطخ اليهود الصهاينة أيديهم بالدماء بهذه الإرادة والإصرار؟ ولماذا حولوا اليهود إلى أعداء للمسلمين؟
إن دعوة شخصيات مثل جيفري ساكس إلى تركيا خطوة في غاية الأهمية، ويجب أن تكون مقدّمة لنهج مستمر. فكل لحظة تغيير كبرى تحتاج إلى مواكبة فكرية موازية. ومثل هذه الخطوات الجديدة والمدروسة سيكون لها بلا شك أثر عميق في عالمنا الفكري.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!