د. سمير صالحة - أساس ميديا

حرّكت معارك السويداء الأخيرة أكثر من ملفّ وسيناريو محلّي وإقليمي تقول إنّ الغموض والسير في المجهول لا يزالان ماثلين على طاولة نقاشات مسار ومستقبل سوريا بعد أشهر من إزاحة نظام الأسد.

يزيد من تعقيد الأمور التداخل القائم بين طروحات المخرج السوري بشقّه الوطني وبين مصالح وحسابات اللاعب الإقليمي المؤثّر في الملفّ. احتدم من جديد فوق رقعة الشطرنج السوريّة تنافس بين اللاعبين المحلّيّين والإقليميّين على إسقاط أكبر عدد من العصافير بأقلّ عدد من الحجارة، لكن من دون نتيجة حتّى الآن. ويبدو أنّ مكان وتاريخ الصدام قد أُرجئا إلى زمان وموقع آخرَين.

ما يزيد الطين بلّة هو المواقف والتصريحات المتناقضة، وربّما المتعمَّدة، الصادرة عن الترويكا السياسية الأميركية. تطلق واشنطن اليد الحربية الإسرائيلية في سوريا عندما تواجه تصلّباً تركيّاً – عربيّاً داعماً للشرع في مواجهة مطالب وممارسات نتنياهو، لكنّها تعود وتنتقد ما تقوم به تل أبيب، وتتّهمها بعرقلة المسار السياسي الجديد في سوريا، وتعريض شراكاتها التركيّة – العربيّة في الإقليم للخطر.

فزّاعة مقابل فزّاعة

“فزّاعة” إسرائيل في السويداء عبر الشيخ الهجري، التي تجاهلت واشنطن ارتداداتها على الداخل السوري، قابلتها بعد ساعات “فزّاعة” الشرع عبر العشائر والقبائل العربية التي استنفرت أبناءها للوقوف بجانب أشقّائهم، بعدما عارضت تل أبيب دخول القوّات النظامية السوريّة مدينة السويداء لحسم المواجهة لمصلحتها، من دون أن تقدّم أيّ ثمن لإسرائيل.

يطرح المشهد بعدئذٍ السؤال التالي: لماذا نناقش إذاً مسألة “النقل والإسكان” المؤقّت لمئات العوائل من القبائل والأسر العربية التي غادرت السويداء؟

بالمقابل، تلتقي تقديرات كثيرة عند قناعة بأنّ معارك جبهة السويداء، البعيدة جغرافيّاً عن الحدود التركيّة، هي بروفة للمواجهة التركية – الإسرائيلية، على مرأى ومسمع فريق عمل دونالد ترامب، قبل انتقالها إلى ساحة شرق الفرات القريبة جغرافيّاً من الحدود التركيّة.

اتّحاديّة أم موحّدة؟

من غير المعقول أن تُفاجأ واشنطن بالتصعيد الأخير في السويداء، كما ادّعت عند تحرّك قوّات الشرع من إدلب باتّجاه دمشق في كانون الأوّل المنصرم. كانت تتوقّع حسم الأمور سريعاً لمصلحة نتنياهو، ليأخذ ما يريده هناك، وبالتالي يقوّي موقفه التفاوضيّ مع دمشق. أمّا ما صدمها فهو دخول اللاعبين الداعمين للسلطة السوريّة الجديدة، وبينهم أنقرة، على الخطّ، فعرقلوا المشروع الأميركي الرامي إلى فرض نموذج الدولة السوريّة الاتّحادية بدلاً من الدولة الموحّدة.

الدولة الموحّدة هي الدولة التي تكون فيها السيادة واحدة، وتشمل وحدة السلطات والإقليم والحكومة والدستور والجيش. أمّا الدولة الاتّحادية فهي تقوم عبر التفكيك أو الاندماج ضمن اتّفاقات ومعاهدات ودساتير جديدة، وتكون فيها السلطة السياسية مشتركة، مع احتفاظ أطراف الاتّفاق باستقلالهم السياسي والإداري ضمن نظام فدرالي أو كونفدرالي كما هو معروف.

القضيّة مطروحة مجدّداً، وستُعاد مناقشتها عندما تنتقل السخونة إلى جبهات شرق الفرات.

رفضت تل أبيب دخول القوّات النظامية السويداء، فكان سلاح العشائر في مواجهة سلاح الهجري. فلماذا يغادر سكّان العشائر المدينة إذاً؟ وهل هو خروج مؤقّت بقرار سيادي حكومي سوري سيُلغى قريباً بعد عودة الأمور إلى سابق عهدها؟ أم مصيرهم سيكون مرتبطاً بمصير جبهات التوتّر الساخنة الأخرى؟

إسرائيل تمسك الورقة الكرديّة

تتمسّك إسرائيل بالورقة الكرديّة شرق الفرات عبر إشعال مواجهة تركية – أميركية. ستكون الأنظار مشدودة إلى دمشق، وإلى احتمال المطالبة بدعم عسكري تركيّ يشرعن المواجهة العسكرية مع “قسد”، ويحاصر حرّية الحركة الأميركية – الإسرائيلية في سوريا. فهل يحسمها سيناريو من هذا النوع؟

لن توقّع أنقرة اتّفاق دفاع عن حليفها في السلطة السياسية السوريّة من دون التشاور مع حلفائها الإقليميّين. قد يكون البديل تشكيل قوات إقليمية مشتركة ذات مهمّات محدّدة لقطع الطريق على سيناريوهات تستهدف المزيد من التفتيت في سوريا.

بارّاك – عبدي

التقى المبعوث الأميركي توم بارّاك مظلوم عبدي على عجل. ما الذي ناقشه معه؟

هل تطرّقا إلى “خطوات استعادة الهدوء والاستقرار على طريق الاندماج في سوريا” بعيداً عن حلم سوريا الواحدة، بحيث يكون الحلّ الفدرالية والحكم الذاتي؟ أم أبلغه رسائل وزير الخارجية التركي ​هاكان فيدان الأخيرة بأنّ أنقرة لا ترى بديلاً عن تسليم “قسد” سلاحها والالتحاق بالمشروع الوطني السوري، وأنّ تكرار تجربة السويداء الفاشلة في شمال شرق سوريا ستكون ارتداداته أكثر كلفة على “قسد”، خاصة بعد الانفتاح التركي الأخير على أوجلان ضمن نقاشات الملفّ الكردي؟

عوّلت واشنطن على معركة السويداء لتكون فرصة ضغط على تركيا والعواصم العربية، لقبول حالة سياسية دستورية في سوريا شبيهة بالوضع في العراق، لكنّها وجدت نفسها أمام ورطة انكشاف المخطّط الأميركي في شرق الفرات، الذي أراد من السويداء أن تكون ذخيرة لهذا المشروع.

رسالة المبعوث الأميركي بارّاك بأنّ “الولايات المتحدة ترى في المرحلة الحاليّة فرصة فريدة لإعادة تشكيل سوريا كدولة موحّدة ذات سيادة، خالية من الكيانات المنفصلة والميليشيات الطائفية، وداعمة لمسار إقليمي نحو السلام يشمل تطبيع العلاقات مع إسرائيل ودول الجوار”، قد تكون هديّة أميركية لأنقرة لتهدئتها بعد ما جرى في السويداء.

لكنّ السؤال: هل تتضمّن هذه الهديّة خطّة عمليّة سريعة لتبديد الغيوم السود فوق شرق الفرات؟ ومتى؟

أنقرة جاهزة للتّدخّل

بانتظار حسم واشنطن مواقفها، تُعِدّ أنقرة على أكثر من مستوى خطّة جديدة متعدّدة الجوانب للتعامل مع السياسات الإسرائيلية، فهي لا تعوّل كثيراً على الموقف الأميركي الذي يرفض ما يفعله نتنياهو، لكنّه لا يتردّد في تقديم كلّ أنواع الدعم لإسرائيل.

تفعيل مسألة توقيع اتّفاق دفاع مشترك عسكريّ – أمنيّ بين تركيا وسوريا سيكون رسالة مباشرة إلى “قسد” في شرق الفرات، لكنّه يعني إسرائيل أيضاً. فكيف سيتعامل البعض مع خطوة استراتيجيّة من هذا النوع إذا ما تمّت؟

يقول نتنياهو إنّه لن يتخلّى عن دروز سوريا، وسيواصل إرسال المساعدات التي يحتاجون إليها. سبق له أن قال الشيء نفسه بشأن أكراد سوريا، لكنّ أنقرة فاجأته بتفاهماتها مع أوجلان وأكراد تركيا. فكيف ستحسم “قسد” خياراتها، وهي تدرك أنّ واشنطن لن تسمح لها بالتسبّب في مواجهة عسكرية تركيّة – إسرائيلية في سوريا؟

ما يقلق واشنطن هو ما يردّده البعض في تركيا عن جاهزيّة أنقرة لتقديم الدعم العسكري لسوريا عند الطلب، وأنّ ساعة الصفر قد تكون لحظة انطلاق المواجهة في شرق الفرات، بعد رفض “قسد” تنفيذ بنود اتّفاق الشرع – مظلوم عبدي.

المواجهات الميدانية والسياسية في سوريا لم تُحسم بعد، والمفاوضات القائمة على خطوط غير متوازية بين الثلاثي التركي – الإسرائيلي – السوري لم تُفضِ إلى نتائج مُرضية حتّى الآن.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس