ترك برس

سلّط مقال للباحث التركي محمد أمين جنكيز، الضوء على الصراعات العرقية والطائفية، والانتهاكات الحقوقية، والتحديات التي تواجه تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا خلال مرحلة ما بعد الحرب، وذلك في ظل الأحداث التي تشهدها محافظة السويداء السورية، بعد أشهر قليلة من أحداث الساحل.

وفيما يلي النص الكامل للمقال الذي نشره موقع "فوكس بلس":

كشفت تصريحات المتحدث باسم لجنة التحقيق التي شُكلت بعد أحداث منطقة الساحل السوري في 6 مارس، مجددًا مدى صعوبة تحقيق العدالة الانتقالية في دول عانت من حروب أهلية طويلة مثل سوريا. فإدارة هذه الفترات الانتقالية تشبه ارتداء قميص من نار، خصوصًا في بلدٍ كـسوريا يتميّز بتركيبة ديموغرافية وإثنية ودينية معقدة للغاية، ما يجعل المهمة أكثر تعقيدًا.

فبعد وقت قصير من أحداث الساحل، شهدت مناطق أشرفية صحنايا وجرمانا جنوب دمشق، في شهر نيسان/أبريل، توترًا متصاعدًا بين الدروز والمسلمين السنة، بعد انتشار تسجيل صوتي نُسب لأحد الدروز يُزعم فيه أنه أساء للنبي محمد ﷺ. اندلعت إثر ذلك اشتباكات بين ميليشيات درزية وقوات حكومية، أسفرت عن سقوط عشرات الضحايا من الطرفين، قبل أن تتمكن دمشق من بسط سيطرتها على تلك المناطق. غير أن الوضع في محافظة السويداء بقي خارج سيطرة الإدارة السورية الجديدة، حيث تصاعد التوتر مجددًا بعد خلاف بين الدروز والعشائر العربية. أدّى تدخل دمشق لمحاولة تهدئة الوضع وفرض نفوذ الدولة إلى تحوّل الأزمة إلى صراع أهلي حقيقي، وانتشرت مشاهد تُذكّر بأيام الحرب الأهلية السورية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

في خضمّ هذه التطورات، وبعد دخول القوات التابعة لدمشق إلى السويداء، تعرّض أنصار الزعيم الدرزي حكمت الحَجَري لكمين من ميليشيات، مما أسفر عن اشتباكات عنيفة. وبعد أن أطلق الحَجَري دعوة لحماية دولية، نفّذت إسرائيل غارات على محيط هيئة الأركان، وزارة الدفاع، وقصر الرئاسة في دمشق. تراجعت دمشق وسحبت قواتها، ما فتح المجال أمام عناصر الحجري لارتكاب مجازر بحق العشائر البدوية السنية. وفي المقابل، تدفّق آلاف المقاتلين من مختلف العشائر السورية إلى السويداء، ليشهد الطرفان – الدروز والعشائر البدوية – موجة من الانتهاكات الطائفية وجرائم ضد المدنيين، ما أدى إلى دمار واسع في محافظة السويداء التي كانت بمنأى عن التدمير طيلة سنوات الحرب.

وقد يكون من الطبيعي أن تزداد مخاوف فئة من الدروز نتيجة فشل دمشق في الاستجابة السريعة لأحداث الساحل، خاصةً وأن معظم الدروز لا يسعون إلى الانفصال عن سوريا، لكنهم يتساءلون عمّا إذا كانوا سيتمكنون من ممارسة شعائرهم بحرية في حال عادت سيطرة الدولة بالكامل. هذه المخاوف – سواء كانت حقيقية أو مبنية على تصورات – على دمشق أن تعالجها فورًا.

تفاقم الوضع مع تجاوز حصيلة القتلى في السويداء لما حدث في الساحل، وفقدان الإدارة الجديدة نحو 800 عنصر أمني في القصف الإسرائيلي، بالإضافة إلى تهجير عشائر بدوية من المنطقة قسرًا بعد مطالبات الحجري. كل ذلك يُبرز ضرورة وضع استراتيجية جديدة من قبل الحكومة السورية والإسراع في تطبيق العدالة الانتقالية، خاصة وأن أي صورة ضعف من دمشق قد تعيق عملية إعادة دمج مناطق "قسد" الخاضعة حاليًا للإدارة الذاتية.

لكن حتى الآن، لم تحقق إدارة دمشق تقدّمًا يُذكر في مجال العدالة الانتقالية. فالشخصيات الرفيعة المرتبطة بنظام الأسد لم تُحاكم بعد، رغم اعتقال العديد من الأفراد، إلا أن المسار القضائي لا يزال بطيئًا وغير واضح. بل إن إطلاق سراح شخصيات مثل فادي صقر، قائد "قوات الدفاع الوطني" المرتبطة بالنظام السابق، بدعوى "تعاونه لمنع سفك الدماء"، أثار استياءً كبيرًا لدى عائلات الضحايا.

في محاولة لاحتواء الغضب الشعبي، عقدت "لجنة السلم الأهلي" مؤتمرًا صحفيًا، إلا أن عضو اللجنة حسن صفوان دخل في مشادات كلامية مع صحفيين على الهواء، ما زاد من فقدان الثقة الشعبية. وبينما يطالب المواطنون بمحاسبة شفافة وشاملة، أصر صفوان على أن بعض القرارات رغم كونها غير مثالية، فإنها "ضرورية" في المرحلة الحالية.

وإذا كان هذا هو الوضع مع مجرمي النظام السابق، فإن طريقة التعامل مع الانتهاكات المرتكبة من قِبل أشخاص محسوبين على الإدارة الجديدة تثير تساؤلات أكبر.

في المحصلة، فإن إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وإصلاح الجيش وقوى الأمن، أصبحت أولوية ملحّة. ومن بين الخطوات الإيجابية التي تبعث على التفاؤل، أن دمشق طلبت رسميًا مساعدة تركيا في تدريب القوات المسلحة، وقد رحّبت أنقرة بهذه المبادرة. إن تعزيز الكفاءة والانضباط المؤسسي يُعد شرطًا أساسيًا لنجاح سوريا في المرحلة المقبلة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!