
سليمان سيفي أوغون - يني شفق
وصل ترامب والحزب الجمهوري إلى السلطة بمهمة تصحيح المسار الذي أفسدته، بشكل أو بآخر، الأوليغارشية المالية في الحرب الروسية-الأوكرانية. وكان يقف خلفه رأس مال يستند إلى قطاعي الطاقة وتكنولوجيا المعلومات. أوقف ترامب فورًا الدعم الأمريكي لأوكرانيا، مما أوقع أوروبا في فراغ كبير. تفسير ذلك بتعاطف مع بوتين وروسيا أو بدوافع سلمية سيكون تقييمًا سطحيًا للغاية.
قرار أوروبا المتعجل بتحويل اقتصادها إلى الطابع العسكري لا يُعدّ مخرجًا حقيقيًا، إذ تعترضه عقبات بنيوية بالغة الجدية. ترامب يدرك جيدًا أن أوروبا، في نهاية المطاف، لا تستطيع الاستغناء عن الولايات المتحدة. وهكذا، سيتمكن من إدارة الحرب دون أن يلوث يديه، ويتخلص من النفقات التي يعتبرها غير ضرورية، بل وحتى يحقق أرباحًا لأمريكا.
أما في السياسة الخارجية، فقد ركّز ترامب كل ثقله على الشرق الأوسط والقوقاز. هدفه تقويض مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، وتعزيز النفوذ الأمريكي في المنطقة. ولا يخفى أن القوة المحورية التي اختارها لتحقيق هذا الهدف هي "إسرائيل". الأحداث التي تلت السابع من أكتوبر تُمهّد لهذا التوجه. ولا ينبغي النظر إلى إسرائيل بوصفها كيانًا مستقلًا فقط؛ القضية تتعلق بمشروع أكبر: جعل "طريق التوابل الجديد"، الذي سيبدأ من الهند، بديلًا لطريق الحرير الجديد الذي أطلقته الصين تحت اسم "الحزام والطريق".
ولتحقيق ذلك، هناك عدد من الشروط المسبقة. أولها: فصل الهند عن مجموعة بريكس وعن روسيا. لذا من المهم متابعة السياسات الموالية للغرب التي بدأت الهند تنتهجها مؤخرًا. العقبة الوحيدة هنا هي باكستان، الحليف القريب من الصين. فإذا أصرت باكستان على تحالفها مع الصين، فستكون هدفًا مباشرًا. أما إن تخلّت عن التزاماتها مع الصين وانضمت إلى الخط الغربي، فستنتهي المسألة.
ومع أن الحرب الأخيرة بين الهند وباكستان أظهرت صلابة باكستان، إلا أن الولايات المتحدة تمارس ضغوطًا متزايدة عليها عبر "القوة الناعمة". ولا ينبغي نسيان الاستقبال الرسمي الاستثنائي الذي حظي به رئيس هيئة الأركان الباكستانية في الولايات المتحدة — وهو استقبال لم يُمنح لأي مسؤول آخر. في المقابل، لا تزال السياسات المعادية للإسلام في الهند مستمرة بلا توقف، حيث تتزايد الضغوط والانتهاكات بحق كشمير والمسلمين. وأعتقد أن السياسة الخارجية التركية تتابع عن كثب وضع باكستان.
في المرحلة الثانية، تؤدّي العلاقات المتنامية بين الهند وإسرائيل دورًا محوريًا وحاسمًا. وقد سعى ترامب، عبر "اتفاقات أبراهام"، إلى تأمين دول الخليج العربي الواقعة بين الهند وإسرائيل. وكان هدف زيارته الأخيرة إلى الخليج التخلص من النفوذ الصيني المتصاعد مؤخرًا في هذه المنطقة — النفوذ الذي ساهم في إذابة الجليد بين السعودية وإيران — وكذلك فكّ ارتباط دول الخليج مع مجموعة بريكس، وإعادة بناء العلاقات الخليجية-الأمريكية المتراجعة. ويبدو أنه حقق نجاحًا في هذا المسعى.
أما المرحلة الثالثة، فتتمثل في إعادة ترتيب العراق وسوريا ولبنان بالكامل بما يخدم المصالح الأمريكية، ودمجها مع إسرائيل. وتبرز العراق ولبنان كأصعب ساحات هذا المخطط. هل يمكن القضاء على النفوذ الإيراني القائم حاليًا في العراق؟ هل سيتم التوصل إلى حل لمسألة تقاسم عائدات النفط بين حكومة إقليم شمال العراق والحكومة المركزية؟ هل سيتم نزع سلاح حزب الله في لبنان؟
وهنا نصل إلى سوريا.. حيث تتضح أهمية تركيا في هذا السياق. فالفراغ الذي سيخلفه إخراج إيران من المعادلة لا يبدو أن أحدًا قادر على ملئه سوى تركيا. يضاف إلى ذلك أن تركيا تشكل الرابط الوحيد لمشروع "طريق التنمية" التجاري الجديد الذي يبدأ من العراق. كما أن من المتوقع توزيع النفط القطري عبر إسرائيل وسوريا.
وهنا تبدأ نقاط التعقيد الحقيقية. على الولايات المتحدة أن تحل المشاكل المتراكمة بين تركيا وإسرائيل، وهي مشاكل من الصعب جدًا تجاوزها. وهذا شرط لا غنى عنه لإنقاذ سوريا. ولكن الواقع أن إسرائيل تريد إقصاء تركيا تمامًا من المشهد السوري، فهي تدعم كيانًا (بي كي كي) شبه مستقل في الشمال، وطائفة الدروز في الجنوب. وهذا يعني، إن لم يكن تقسيمًا لسوريا، فهي تسير نحو نموذج فيدرالي غير مستقر شبيه بالعراق. إسرائيل لم تتراجع عن هذا المطلب، ولا أعتقد أنها ستفعل.
من جانبها، ترفض تركيا بشدة وجود كيان كردي تابع لتنظيم بي كي كي شرق الفرات، وتسعى للحفاظ على نفوذها في سوريا، بل وتوسيعه، ضمن إطار سوري موحد. وتحاول تركيا أن تُظهر للرأي العام العالمي أنها تتبع نهجًا سلميًا من خلال مبادرة "الديمقراطية والأخوة". لكن إذا لم تُختتم هذه المبادرة ببنية سورية موحدة، فقد تؤدي إلى مشاكل أكبر بكثير. وإذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إنتاج صيغة ترضي الطرفين، فقد يتم تفعيل أسوأ سيناريو ممكن: وهو اندلاع حرب بين تركيا وإسرائيل.
بطبيعة الحال، أمريكا لا ترغب في هذا من حيث المبدأ، لكن إن وقع فلن يمكن السيطرة على الأمور. وسنكون نحن أيضًا من المتضررين، إلا أن التطور الكبير في قدرة الجيش التركي القتالية سيُكبّد إسرائيل ثمنًا باهظًا لم تختبره من قبل. والأسوأ من ذلك: لا ينبغي نسيان أن محور الهند-إسرائيل يمتد حتى قبرص واليونان.
وإن خرج الصراع عن السيطرة، فمشاركة اليونان في المعركة أمر شبه مؤكد. لا أستطيع تحديد أبعاده بدقة، لكن من المحتمل أن تنخرط أذربيجان، وربما باكستان، وحتى الهند. وسينهار عندها المخطط الأمريكي بأكمله. لذلك، على أمريكا أن تفعل المستحيل للتوصل إلى تسوية بين تركيا وإسرائيل. وهذا يتطلب مهارة دبلوماسية خالصة، وليس فقط عقلية تجارية.
يشكل محور الهند–إسرائيل–اليونان الهيكل الرئيسي لمشروع "طريق التوابل" الذي تطرحه الولايات المتحدة. لكن باراك أوباما أعلن أن هذا لا يكفي، وأن هناك جبهة حرجة أخرى في القوقاز. أما الدولة المحورية هناك، فهي أذربيجان، ذات العلاقات الوثيقة مع إسرائيل. وقد وصل النفط الأذربيجاني إلى سوريا، ومن هناك يمكن نقله بسهولة إلى إسرائيل. تسعى الدبلوماسية الأمريكية إلى تحقيق السلام بين أذربيجان وأرمينيا، وفتح "ممر زنغزور" والسيطرة التامة عليه. هذا يعني إدخال إسفين أمريكي بين إيران وروسيا. وبهذا، يتم القضاء تمامًا على الخط الذي كان من المقرر إنشاؤه سابقًا بين روسيا وأذربيجان وإيران والهند.
تركيا تدعم هذا المشروع، لكن من الواضح أن الولايات المتحدة، بعد انسحابها من أوكرانيا، بصدد فتح جبهة جديدة في القوقاز. فقد ابتعدت أرمينيا وجورجيا كثيرًا عن روسيا، والآن العلاقات بين أذربيجان وروسيا على وشك الانفصال. المنطقة تزداد اشتعالًا، ويبدو أن مستقبل العلاقات التركية–الروسية سيظل غامضًا ومضطربًا.
لذلك، عند صياغة سياساتها، على تركيا أن تولي اهتمامًا بالغًا لهذا الإطار الاستراتيجي المتعدد الطبقات والمليء بالتعقيدات، وأن تتابع خطوطه بدقة، وألا تسمح بحدوث أيّ تماسّ خطير، وأن تدرك أن بعض المكاسب التكتيكية والآنية قد تجرّ عليها خسائر استراتيجية في المستقبل.
كما قال أسلافنا الحكماء: ""ذهب ليجلب أرز دمياط، فضيّع البرغل الذي في بيته."
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس