ترك برس

يشير خبراء إلى أن تجربة أكراد العراق في بناء شراكات استراتيجية مع تركيا، بدل الاعتماد على التحالفات البعيدة، تقدم دروساً مهمة لأكراد سوريا في ظل الضغوط الحالية على "قسد" والرهانات الأميركية المتغيرة، بما يجعل الحوار مع الدولة السورية خياراً واقعياً لضمان حقوقهم واستقرارهم.

وفي هذا الإطار، قال الأستاذ والكاتب الصحفي بوستة مسعود، إنه "من يتأمل المسار السياسي للأكراد في العقود الأخيرة، يكتشف أنهم ظلوا عالقين بين حلم قديم بالاستقلال، وواقع جغرافي يفرض التعايش مع جيران أقوياء ومتوجسين".

وأضاف في مقال له على موقع "الجزيرة نت"، أنه "وبينما نجح أكراد العراق في صياغة معادلة واقعية تقوم على التعاون مع أنقرة وتفادي الصدام، ما زال أكراد سوريا يواجهون مأزق الخيارات بين البقاء تحت المظلة الأميركية، أو الانخراط في النظام السوري الجديد، الذي بدأ يظهر مرونة نسبية تجاههم."

وجاء في المقال:

الفرق بين التجربتين لا يكمن فقط في اختلاف الجغرافيا، بل في المنهج السياسي والعقلي؛ فأكراد العراق أدركوا مبكرا أن البقاء في قلب الشرق الأوسط لا يكون بالتحالف مع القوى البعيدة، بل بالتفاهم مع الجار، ولو كان خصما بالأمس.

أما أكراد سوريا، فقد ظلوا يراهنون على واشنطن، ظنا منهم أن الغرب سيمنحهم دولة كما منح أكراد العراق إدارة ذاتية قوية، لكنهم اليوم يكتشفون أن التحالف مع أميركا يشبه المشي على رمال متحركة، تتبدل أشكالها بتبدل المصالح والأولويات.

البراغماتية الكردية في العراق: دروس في فن البقاء

حين دخلت تركيا على خط العلاقة مع أربيل، ظن كثيرون أن التحالف محكوم بالفشل، لكن الزمن أثبت العكس. فقد تمكن إقليم كردستان العراق من بناء شبكة مصالح اقتصادية مع أنقرة، جعلت الحدود بينهما هي الأكثر استقرارا في العراق، رغم حساسية الملف الكردي داخل تركيا نفسها.

لقد كانت تلك سياسة براغماتية بامتياز: التعاون في الاقتصاد والطاقة مقابل اعتراف ضمني بواقع الحكم الذاتي في أربيل، من دون استفزاز مفرط لمخاوف أنقرة الأمنية.

هذا الخيار مكن أكراد العراق من ترسيخ مؤسساتهم وبناء تجربة سياسية خاصة، حتى وإن لم تخلُ من أزمات داخلية، لكنه أبقى لهم -على الأقل- شراكة مع الجوار، بدل عزلة خلف حدود الحلفاء البعيدين الذين لا يضمنون سوى الوعود.

إن الدرس هنا واضح: السياسة الواقعية تمنح الأكراد مساحة للبقاء، وتحولهم من طرف ضعيف في صراعات المنطقة إلى لاعب قادر على حماية مصالحه، حتى ضمن بيئة إقليمية حساسة ومعقدة.

أما في سوريا.. فقد تاهت البوصلة

على الضفة الأخرى، كان المشهد السوري أكثر تعقيدا. بعد انسحاب النظام السوري من الشمال عام 2012، وجدت القوى الكردية نفسها أمام فراغ أمني ملأته بسرعة بتشكيل قوات "قسد" والإدارة الذاتية.

وقد منحها الدعم الأميركي في حرب "تنظيم الدولة" قوة عسكرية ونفوذا واسعا، لكن هذا الدعم لم يكن تفويضا لبناء كيان سياسي دائم أو ضمانا لحماية طويلة الأمد.

اليوم، تتعرض "قسد" لضغوط متزايدة من حليفها الأميركي، الذي غير بوصلته أكثر من مرة، بما في ذلك دفعه نحو دمج "قسد" في الجيش السوري الجديد، أو تفكيكها لصالح ترتيبات محلية تعكس مصالحه الإستراتيجية فقط.

الأكراد في سوريا أمام خيار صعب: إما الانضمام إلى مشروع وطني سوري جديد، يتيح لهم مساحة سياسية حقيقية داخل الدولة، أو الاستمرار في الرهان على حليف غربي غير مستقر في سياساته ومتغير في أولوياته.

هل حان وقت العودة إلى الجغرافيا؟

هنا يبرز سؤال جوهري: أليس من المنطقي أن يفكر أكراد سوريا في الاندماج الروحي والسياسي في اليوميات السورية بدل البقاء على هامشها؟ فالنظام السوري -بعد سنوات الحرب الطويلة- بات يدرك أن البلاد لن تبنى من جديد دون الاعتراف بتنوعها الثقافي والإثني، وأن إشراك الأكراد في مؤسسات الدولة الجديدة قد يكون ضمانة للاستقرار ووحدة التراب السوري.

في المقابل، أليس من الخطأ الإستراتيجي الإصرار على الصدام مع دمشق، أو الاستمرار في الرهان على حليف أميركي متقلب؟ أليست هذه فرصة ذهبية للأكراد للعودة إلى حضن وطن تتشكل ملامحه من جديد، والمساهمة في بناء دولة سورية قوية حرة ومتعددة المكونات؟ إن الاندماج لا يعني التخلي عن الهوية، بل تحقيق استقرار سياسي يتيح للأكراد ممارسة حقوقهم المدنية والثقافية، وحماية مجتمعهم من أي انتكاسات مستقبلية.

بين المظلومية والتاريخ: معضلة العدالة

لكن الإنصاف يقتضي طرح السؤال من زاوية أخرى أيضا: أليس من الظلم مطالبة الأكراد بقبول الأمر الواقع مرة أخرى من دون ضمانات حقيقية؟

لقد دفعوا ثمنا باهظا عبر التاريخ من التهميش والاضطهاد، وكانوا في كثير من الأحيان ضحية الأنظمة المركزية والدكتاتوريات العسكرية التي صادرت هويتهم. لذلك، فإن أي تسوية قادمة ينبغي أن تراعي حقهم في الاعتراف الثقافي والسياسي، وأن تضمن مشاركة عادلة في السلطة والثروة، كي لا تتكرر مآسي الماضي.

هنا لا يمكن تجاهل حساسية الذاكرة الكردية، ولا يمكن بناء مستقبل مشترك دون مصالحة تاريخية تعترف بالخطأ وتفتح صفحة جديدة على أساس المواطنة المتساوية. إن التسوية الناجحة لا تقتصر على الجانب السياسي وحده، بل تشمل الحقوق الاقتصادية والتعليمية والثقافية، وتتيح لهم التمثيل المناسب داخل مؤسسات الدولة، بما يحقق العدالة التاريخية ويكفل الأمن المجتمعي.

ما الطريق الأنسب إذن؟

الواقعية تفرض أن لا أحد في سوريا اليوم يستطيع حكم البلاد بمفرده، ولا يمكن لأي مكون- عربي أو كردي- أن يفرض مشروعه بالقوة. لذلك، يبدو أن الطريق الأنسب هو الحوار الداخلي بعيدا عن وصاية الخارج، وبإشراف وطني شامل يضمن احترام التنوع ويحمي سيادة الدولة.

إن تجربة أكراد العراق أثبتت أن التعامل الحكيم مع الجيران يفتح أبواب الاستقرار، في حين أن الاعتماد على الحليف البعيد يجعل المصير رهينة بمصالح لا علاقة لها بطموحات الشعوب.

والسؤال الأهم: هل يتعلم أكراد سوريا هذا الدرس قبل فوات الأوان؟ وهل يمكنهم الاستفادة من الفرصة الحالية للانخراط الكامل في المشروع السوري مع الحفاظ على خصوصيتهم الثقافية؟

منطق الجغرافيا لا يرحم من يتجاهله

في النهاية، لا يمكن لأي مشروع سياسي في الشرق الأوسط أن ينجح بمعزل عن الجغرافيا.. الأكراد جزء أصيل من هذه الجغرافيا، وهم ليسوا ضيوفا عليها، لكن بقاءهم الحر والآمن لن يتحقق إلا ضمن تسوية إقليمية عقلانية تعترف بحقوقهم وتضع حدا لمخاوف جيرانهم في الوقت نفسه؛ فالسلام الحقيقي لا يبنى على التحالف مع البعيد، بل على التفاهم مع القريب.

ولعل الدرس الأبرز من تجربتَي العراق وسوريا هو أن من يقرأْ التاريخ بعيون الجغرافيا وحدها ينجُ من أوهام السياسة العابرة، بينما من يغفل دروس الواقع يظل أسير التكرار التاريخي والخذلان المتكرر.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!