ترك برس

تناول تقرير للكاتب والسياسي التركي ياسين أقطاي، إعادة قراءة الهزيمة العثمانية في الحرب العالمية الأولى بعيدًا عن السردية التقليدية التي حمّلت العرب مسؤولية «الخيانة»، موضحًا أن سقوط فلسطين وخروج الشرق الأوسط من الحكم العثماني خلال 42 يومًا لم يكن نتيجة خيانة عربية بل بفعل عوامل داخلية وأخطاء سياسية وعسكرية لم يُحاسَب أصحابها.

ويشرح أقطاي في تقريره بصحيفة يني شفق كيف استغلّت القوى الاستعمارية، خصوصًا بريطانيا وفرنسا، خطاب الكراهية بين العرب والأتراك لتسهيل احتلال المنطقة ونهبها، فيما تبنت بعض النخب العربية سردية مضادة تتهم العثمانيين بالاحتلال.

ويربط التقرير ذلك بالمرحلة الراهنة، مستعرضًا تصريحات الرئيس أردوغان حول ضرورة ترميم الجسر العاطفي بين تركيا والعالم العربي بعد قرن من القطيعة المصطنعة. ويخلص إلى أن الحقائق التاريخية تتغير، وأن الشعوب في المنطقة تتجه نحو استعادة روابطها الطبيعية، بينما تبقى السرديات الأيديولوجية القديمة عائقًا يتآكل ببطء رغم تغيّر الواقع.

وفيما يلي نص التقرير:

قبل الحرب العالمية الأولى، كانت الغالبية العظمى من المنطقة التي تُعرف اليوم بالشرق الأوسط تحت الإدارة العثمانية. ونتيجة لحكم جمعية الاتحاد والترقي لمدة عشر سنوات فقط، تزامنت آخر أربع سنوات منها مع الحرب العالمية الأولى، خرجت هذه المنطقة بأكملها بسرعة من السيطرة العثمانية واستُعمرت من قبل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. وقد حُسمت نهاية الحرب بالهزيمة القاسية التي تلقتها الدولة العثمانية، ولا سيما على جبهة فلسطين.

لم تكن هذه الهزيمة الفادحة قدرًا محتومًا كما يُتصور. فحتى المراحل المتأخرة من الحرب، وتحديدًا قبل 42 يومًا فقط من توقيع الهدنة في 30 أكتوبر، لم تكن تلك الأراضي قد سقطت بعد، كما أن وضعنا على الجبهات لم يكن سيئاً كما يُعتقد. لقد بدأت الهزيمة، التي لم تكن حتمية على الإطلاق، في 18 سبتمبر، وهو اليوم الذي وقع فيه الهجوم البريطاني، وفي غضون فترة وجيزة لا تتجاوز 42 يوماً، فُقدت هذه الأراضي بأكملها. ولم تُجرَ حتى الآن تحقيقات صحيحة ولا محاسبة تاريخية لهذه الخسارة وهذه الهزيمة. وبمجرد انتهاء الحدث، كانت جميع كوادر الحكومة المسؤولة عن إجراء هذا التحقيق قد تغيرت، وواصل المتسببون الحقيقيون في هذه الحادثة حياتهم دون تقديم أي حساب، سواء أمام السلطات المختصة أو أمام التاريخ. وبالطبع، أصبحوا من الفاعلين المهمين في النظام اللاحق.

ما مدى تأثير "الخيانة العربية" على الهزيمة العثمانية؟

لاحقًا، ولصرف الأنظار عن البحث في الأسباب الحقيقية للهزيمة، جرى تضخيم رواية "الخيانة العربية" إلى أقصى حد ممكن. فهل كانت هناك خيانة من بعض العرب؟ طبعا لا يخلو الأمر. ولكن، هل تلك الخيانة هي السبب الحقيقي للهزيمة؟ وهل يُعقل أن تسقط دولة كبرى كالدولة العثمانية، بسبب خيانة بضعة "لصوص" من العرب، بينما كان الموالون لها منهم يفوقون بأضعاف مضاعفة من قاموا بالخيانة؟

قطعًا لا. فما فعله أولئك العرب "الخونة" لم يتعدّ كونه دورًا ثانويًا في العملية التي أدت إلى الهزيمة. أما الفاعلون الحقيقيون فكانوا طرفًا آخر تمامًا. وإلا فكم من حوادث خيانة مماثلة، بل وأكبر، شهدتها الأناضول ذاتها. لقد تم توظيف خطاب "الخيانة العربية" آنذاك لإخفاء الفاعلين الحقيقيين، ولكن الأهم من ذلك، أنه أصبح سردية وظيفية بامتياز سهّلت الاحتلالين البريطاني والفرنسي ومشاريعهما الإمبريالية. وكانت كراهية العرب أداة فعالة لضمان ابتعاد الأتراك وجدانيّاً عن العالم العربي.

واللافت أن كراهية العرب تحولت إلى كراهية تجاه الجغرافيا العربية ذاتها. والمفارقة أنّ البريطانيين والفرنسيين الذين عملوا على إبعاد الأتراك عن المنطقة، هم أنفسهم اندفعوا نحوها بشغفٍ كبير. كانت غايتهم جعل الأتراك يكرهون تلك الأراضي، لكي يتسنى لهم نهبها بسهولة.

فهل كان الغربيون الذين اندفعوا بنهم كبير نحو العالم العربي واستقروا فيه يحبّون العرب كثيرًا؟ إن النظرة البريطانية والفرنسية إلى العرب كانت مليئة بالتحيّزات الاستشراقية والعنصرية. لكن هذه المشاعر لم تثنهم عن الاقتراب من هذه الأراضي، بل دفعتهم إلى التمييز باحترافية بين مشاعرهم وأفعالهم.

كراهية الأتراك الجدد للعرب مشروع بريطاني فرنسي بامتياز

كلما ازدادت كراهية الأتراك للعرب، ازداد الغرب قدرةً على التغلغل في العالم العربي ونهب ثرواته، ووجد المشروع الصهيوني خصوصًا بيئةً مثالية للتوسع. فمع إعلان وعد بلفور عام 1917، بدأت عملية جلب اليهود من أنحاء العالم وتوطينهم في فلسطين التي تركها العثمانيون. وقد سهلت فجوة الكراهية التي صُنعت بين العرب والأتراك تنفيذ هذه العملية بشكل كبير.

في غضون ذلك، وكما هو معلوم، أصبح النفط في أوائل القرن العشرين منتجاً استراتيجياً. ففي عام 1911، قررت البحرية البريطانية التحول من الفحم إلى النفط كوقود، ومع نهاية الحرب، شرع البريطانيون في استخراج النفط من الأراضي العثمانية التي قُسمت بموجب اتفاقية سايكس بيكو. وبهذا، نجحت رواية الخيانة العربية في أداء وظيفتها كخطاب أيديولوجي للإمبريالية، واستمر هذا في دول أخرى أيضاً. وبطبيعة الحال، كان للجانب العربي من هذا المشروع روايته الخاصة، المتمثلة في "الاحتلال التركي أو الإمبريالية التركية" التي كانت تُدرَّس في مدارسهم.

لقد خلقت هاتان القصتان المتكاملتان فجوةً عاطفيةً طبيعيةً بين تركيا والعالم العربي على مدى ثمانين عامًا. وقد أشار الرئيس أردوغان في اجتماع الكتلة النيابية لحزب العدالة والتنمية يوم الأربعاء الماضي إلى الثمن الباهظ الذي دفعه الشعبان جرَّاء هذه الفجوة، مذكّرًا بأنهم عندما وصلوا إلى السلطة عام 2002 قالوا: "ليس لنا أطماع في أراضي أحد، ولا نكن أي عداوة لأحد. سنحتضن مجددا المناطق التي تربطنا بها الأواصر القلبية"، وأضاف: "لقد أدرنا وجوهنا مجدداً كواجب تاريخي، إلى تلك الجغرافيا الروحية التي أدارت تركيا ظهرها لها لسنوات طويلة، وسعت لنسيانها وتناسيها. قلنا يومها: سنبقى داخل حدود بلدنا، وسنحمي تلك الحدود بدمائنا وأرواحنا، ولكن لا يمكن لأحد أن يضع حدودًا للجغرافية التي تربطنا بها أواصر قلبية".

وأشار الرئيس أردوغان إلى أن بعض الجهات اختلقت رواية مضللة منذ عشرات السنين تزعم أن العرب طعنوا الأتراك في ظهرهم، وأنها تعيد اختلاقها وتقديمها مجددا. ليصل إلى صلب الموضوع قائلاً: "يقولون: 'العرب طعنونا في الظهر'… "دعكم من هذا، فعلى مدى عشرات السنين، أداروا ظهورهم للعجم والعرب والمسلمين ولجغرافيتنا التاريخية، وللمناطق التي تربطنا بها الأواصر القلبية ولأصدقائنا وإخوتنا، حتى أنهم فرقوا رأس المال بناءً على ألوانه. وبينما كانت الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين تستثمر في جغرافيا ترتبط وجدانيا بتركيا وتسحب استثمارات منها، كان هناك داخل تركيا عصابة تطعن الأتراك في ظهرهم بتشدقها بعبارات "رأس المال العربي ورأس المال الأخضر والرجعية. لقد وجهوا - من خلال هذه الأكذوبة - أكبر إساءة لتركيا وسبّبوا لها أكبر ضرر. وبينما كانوا يحاولون التستر على فسادهم الهائل وقذارتهم ومستنقعاتهم، كنا نحن كالفرجار، نثبت قدمًا في أنقرة، وبالأخرى نجوب العالم بأسره، وكل الجغرافيا التي تربطنا بها أواصر قلبية شبرًا شبرًا، نكافح من أجل السلام والاستقرار والعدالة."

الحقائق تتغيّر… لكن التصوّرات والأيديولوجيات تتغير ببطء أكبر

وكما هو متوقع، اعتُبرت تصريحات الرئيس أردوغان هذه بمثابة بيان تاريخي جديد في العالم العربي، وأحدثت صدى واسعًا. ولكن بينما استقبلت الأوساط الواعية في كلا الجانبين هذه التصريحات بفرح وحماس كبيرين، لإدراكها ما يجري، سارع المتشبثون بالمشروع البريطاني الفرنسي إلى ترديد خرافاتهم القديمة وكأنهم يجدّدون إيمانهم بها.

إن دخول الشعبين، بل جميع الشعوب الأصيلة بما فيها الشعب الكردي في المرحلة الجديدة، إلى مسرح التاريخ مجددا متحدين ومتكاتفين، هو قدر محتوم. وهذا الدخول يزلزل النظام االذي هيمن على المنطقة لـ 110 أعوام. لقد بلغت الصهيونية حدودها القصوى. والفجوات التي نشأت بين شعوب المنطقة آخذة في الانغلاق. وإن نظام الاستغلال الذي يزدهر على هذه الفجوات يتزعزع. لكن السرديات الأيديولوجية المحفورة في أذهان البعض لا تتغير فورًا، كالإيمان والعقيدة.

لم يقل ماركس عبثاً: "إن التغيرات في البنية الفوقية لا تتغير بنفس سرعة البنية التحتية". فالحقائق تتغير، لكن المسلمات الأيديولوجية المتعلقة بالحقائق تستمر لفترة طويلة وهي منفصلة تماماً عن الحقائق، مما يوقع حامليها والمعبرين عنها في مواقف تراجيدية كوميدية ومفارقات تاريخية.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!