ترك برس

تناول مقال للكاتب والأكاديمي التركي أحمد أويصال، تصاعد موجات الاحتجاجات الاقتصادية حول العالم، خاصة في الدول النامية التي تعاني هشاشة مالية وتفاوتًا كبيرًا في توزيع الثروة.

يوضح الكاتب كيف أدّت الفجوات التنموية، وارتفاع توقعات الشباب بفعل التعليم والإنترنت، وتفاقم الأزمات المعيشية إلى انفجارات شعبية أطاحت بحكومات في بنغلاديش ونيبال وسريلانكا، وأسهمت في تغيير النظام في سوريا.

ويركز على دور الفقر والبطالة والفساد وغياب العدالة الاقتصادية في تأجيج الغضب الاجتماعي، ويبيّن أن استمرار النظام الاقتصادي العالمي غير المتوازن يجعل هذه الاحتجاجات مرشحة للتكرار ما لم تُعالَج جذور الأزمة بجدية.

وفيما يلي نص المقال الذي نشرته صحيفة الشرق القطرية:

يشهد النظام الاقتصادي العالمي أزمات كبيرة، وتوجد فجوات اقتصادية عميقة بين الدول المتقدمة والدول الفقيرة. فالعولمة والتطورات التكنولوجية لا تقلّص الفوارق التنموية بين المناطق والدول، بل تزيدها اتساعًا، بل وأحيانًا داخل الدولة نفسها. وفي المقابل، أدى ارتفاع مستوى التعليم وانتشار التلفزيون والإنترنت إلى زيادة توقعات الشباب حول العالم في حياة أفضل. غير أنّ هؤلاء الشباب، الذين يرغبون في رؤية مستوى التنمية والرفاه الموجود في العالم داخل بلدانهم، يلجؤون إلى الاحتجاج عندما لا تتحقق هذه التوقعات. إضافة إلى ذلك، تشهد كل من الدول المتقدمة والنامية توترات سياسية، إلا أنّ حدة هذه التوترات تكون أشدّ في الدول النامية بشكل طبيعي.

في السنوات الأخيرة اندلعت مظاهرات شعبية واسعة في العديد من الدول، وكان من أبرزها المظاهرات الداعمة لشعب غزة، حتى أننا شهدنا احتجاجات كبيرة داخل إسرائيل نفسها. وكثير من هذه الاحتجاجات السياسية موجّهة ضد الظلم، وتجاوز الحكومة لصلاحياتها، والتلاعب بالانتخابات، أو ضعف وفشل الإدارة. ومن الولايات المتحدة إلى إندونيسيا، ومن إفريقيا إلى دول البلقان، تُنظَّم مثل هذه الاحتجاجات. وبطبيعة الحال من الصعب فصل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية عن بعضها، كما أن الاحتجاجات ذات الدوافع الاقتصادية واسعة الانتشار أيضًا. ومع الاعتراف بالصلة بين الجوانب الاقتصادية والسياسية، سنركّز هنا على الاحتجاجات التي تنشأ لأسباب اقتصادية، والتي وصلت في بعض البلدان إلى حدّ إحداث تغييرات في النظام الحاكم.

في العامين الماضيين أدّت الاحتجاجات المتصاعدة في بنغلادش ونيبال إلى إسقاط الحكومات أو الأنظمة هناك، وهما بلدان فقيران يواجهان أزمات اقتصادية خطيرة. ففي العام الماضي أطاحت الاحتجاجات في بنغلادش بالحكم الاستبدادي لحسينة، وقد كان الشباب والطلاب يشكلون العمود الفقري للحراك، بينما شاركت فئات أخرى مثل العمال والنساء في دعمه. وقد أشعلت فتيل هذه الاحتجاجات خطةُ الحكومة لزيادة حصص بعض الأقليات في التوظيف داخل مؤسسات الدولة، وهو ما أثار غضبًا واسعًا لدى شعب يعاني أصلًا من الفقر والبطالة ويشعر بالتهميش، فجاءت هذه الخطوة لتفجّر موجة كبيرة من السخط الشعبي.

كانت مطالبة الشباب بمكافحة الفساد الذي يُعدّ أحد أهم أسباب الفقر عاملاً رئيسيًا في إشعال موجة الاحتجاجات، إذ أدّت الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وانتشار بطالة الشباب، وهيمنة بعض النخب على السياسة والاقتصاد إلى تعزيز البيئة الممهّدة للثورة. وبعد جائحة كورونا تباطأ النمو الاقتصادي والإنتاج في بنغلاديش، وازدادت أزمة العملات الأجنبية والطاقة، فيما ارتفعت معدلات الفقر إلى أكثر من 24%، وتعمّق الفقر الحضري وازداد الوضع سوءًا في المناطق الريفية. كما أدّت أزمة العملة إلى أزمات في الطاقة والسلع الأساسية، مما فاقم الغلاء والتذمّر الشعبي، ومع تراكم المظالم الاجتماعية والاقتصادية واشتداد القبضة السياسية، انفجرت انتفاضة شاملة انتهت بسقوط النظام.

في عام 2022 شهدت سريلانكا احتجاجات واسعة ذات طابع اقتصادي أدّت إلى إسقاط الحكومة، بعدما أنهكت المواطنين أزمات الوقود وانقطاع الكهرباء ونقص الأدوية والغذاء وارتفاع التضخم. وفي سوريا عاش الشعب أوضاعًا اقتصادية مشابهة تحت حكم نظام الأسد، ما أسهم في اندلاع حركة شعبية مسلّحة أطاحت بالنظام في نهاية عام 2024. وقد شكّلت حدة الأزمة الاقتصادية عاملًا حاسمًا في سقوطه، إذ تبيّن بعد انهيار النظام حجم التدهور الاقتصادي بشكل أوضح، وتعمل الحكومة السورية الجديدة اليوم على مواجهة هذه التحديات الاقتصادية الهائلة والبحث عن حلول لها.

شهدت نيبال عام 2025 موجة واسعة من الاحتجاجات الاقتصادية التي أسقطت الحكومة، ورغم أن ذلك لم يشكل تغييرًا كاملًا في بنية النظام، فإنه قدّم مثالًا صارخًا على قدرة الهشاشة الاقتصادية على تفجير اضطرابات اجتماعية كبيرة. ويُعَدّ الشباب الذين يشكلون نصف السكان الفئة الأكثر تضررًا، إذ يعانون من مستويات مرتفعة من البطالة والفقر، فيما تزيد ارتفاعات أسعار الغذاء ونقص الوقود والمواد الأساسية وانخفاض الأجور وتراجع فرص العمل من حالة الاختناق المعيشي. وكما هو الحال في بنغلاديش وسريلانكا، تواجه نيبال تضخمًا مرتفعًا وانتشارًا للفساد، فضلًا عن اعتماد اقتصادها الشديد على تحويلات العمال في الخارج، ما يجعلها عرضة للتقلبات والصدمات الخارجية. وفي ظل استمرار النظام الاقتصادي العالمي غير العادل، ستبقى هذه الهشاشة الاقتصادية مصدرًا دائمًا للاضطرابات. فالمجتمعات التي تغفل عن تحقيق العدالة في توزيع الثروة والفرص إنما تمهّد لانفجارات شعبية لاحقة، ولن يتحقق استقرار سياسي حقيقي ما لم تُعالَج جذور الفقر والفساد بجدّية.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!