حاوره عبد الرحمن السراج - خاص ترك برس

الحبيل: العلاقة بين السعودية وتركيا في وضع جيد، وتمر بمرحلة من التصحيح الإيجابي

أكّد الكاتب السعودي مهنّا الحبيل أنّ أحد أسباب أزمة القضية السورية وتطوراتها وميلاد التطرف الذي شكّله داعش بعد التّطرف الإرهابي من الأسد والمنظومة الأيديولوجية الطائفية الإيرانية هو أنّها لم تُحلّ بتعاون عربي تركي كافي، وذلك في حوار خاص مع تُرك برس.

تحدّث الحُبيل خلال الحوار عن مُتابعته الواسعة لتُركيا الّتي سبقت تجربة حزب العدالة والتنمية وسرد للتاريخ السياسي لتُركيا، وتناول طبيعة العلاقة بين العرب والأتراك في الإطارين السياسي والثقافي، معرّجًا على العلاقة بين السعودية وتركيا التي أشار إلى أنّها تمر الآن بمرحلة من المراجعة والتصحيح الإيجابي، ليختتم الحوار بتقديم انطباعه عن مدينة إسطنبول.

- التقينا الأُستاذ مُهنّا الحبيل وطلبنا منه في بداية الحوار تعريفًا بنفسه لقُرّاء تُرك برس

مُهنّا الحبيل، كاتبٌ ومحلل سياسي وباحث إسلامي، من مواليد عام 1963 في الظّهران العاصمة الاقتصادية للشّرق السّعودي، من منطقة الأحساء. بدأت الكتابة في الثمانينيّات، وبدأت النشر في الصّحف في عام 1993، حيث تركّز اهتمامي على منطقة الخليج والفكر الإسلامي المُعاصر، تنقلت في العديد من الصحف الخليجية مع مشاركات ثقافية وندوات عديدة.

وتنشر حاليا أعمدتي في اليوم السعودية، والجزيرة نت، والوطن القطرية. وصدر لي عدة كتب منها: "محرقة غزة.. حرب اسرائيل الخاسرة"، و"النزاع الدولي الإقليمي في الخليج العربي.. صراع ام تقاطع"، و"ليلة القبض على مصر"، و"التيارات العربية والقضية الديمقراطية".

- حدّثنا عن معرفتك بتركيا

مُتابعتي للشأن التركي كانت سابقة للتجربة الحديثة لحزب العدالة، وكما تعلم إذا أُطلِقت عبارة "الشّرق الإسلامي" فإنّها تعني العرب وأشقّائنا العجم، وتُركيا تُمثّل الجسم الرّئيسي لشركائها العرب في حمل الرّسالة الإسلامية.

النّقطة الثانية هي أنّ تركيا كانت لسبعمئة وخمسين سنة سلطنة وإمبراطورية إسلامية كبيرة جدًا ومؤثرة في التاريخ السياسي للعالم، فقد كانت تحمي شؤون المسلمين المستضعفين رسميًا وتدافع عنهم في البلقان وفي غيرها وحمت فلسطين أمام أطماع الحركة الصهيونية، وتُدير في ذلك الزمن الحالة السياسية للعالم الإسلامي سواء بإيجابياتها أو بالأخطاء التي كانت بين الدولة العثمانية والمشرق العربي وبين العالم الإسلامي. لكن تجربتها في النهاية ثرية جدا ولها إيجابيات عظيمة.

- لكن ماذا عن ارث الخصومة بين الترك والعرب من المسؤول؟

"يتحمل المثقفون القوميون العرب والمثقفون القوميون الأتراك مسؤولية ظهور حالة العداء التي ظهرت العرب والأتراك"

تأثر المشرق العربي بعد انهيار الدولة العثمانية بعوامل محلية وأخطاء السلطنة لعثمانية وبتدخل المستعمر الغربي، وظهرت الحركة القومية التركية والحركة القومية العربية سواء كرد فعل أو في سياق واحد إذا جاز التعبير مع تشجيع الإنجليز لهذه الفكرة وليس صناعتها بالكلية كما يعتقد البعض.

وفي ظني يتحمل جناحي التطرف لدى القوميين الأتراك والقوميين العرب مسؤولية بروز حالة العداء التي ظهرت، بينما كان ما يجمعهم من الأممية الإسلامية والإنسانية الراشدة فيها أكبر بكثير من هذه الخصومات الظرفية.

ولعلي وجدت عندما دقّقت في تجربة الحركة القومية التركية الكثير من حالات الاستنساخ قد تأثرت بها الحركة القومية العربية بالحركة القومية التركية كالموقف من الدين في المجتمع على سبيل المثال.

فكليهما يدّعي أن هناك ميلادًا للأمّة خارج الإسلام، ومع الاعتراف بالتطورات الايجابية التي طرأت على فكر القوميين العرب وتصحيح العديد منهم، فإنّ الفكرة الأيديولوجية المركزية للقوميين هي أن العرب أمّة وجودها سابق على وجود الإسلام، وهذا غير صحيح بالمنطق التاريخي الصّرف.

وبعد ميلاد الدولة القومية الحديثة على يد مؤسس الجمهورية كمال أتاتورك حصلت تجاذبات سياسية كبيرة جدًا ونوع من الجفاء مع الحالة الإسلامية للأتراك في ذلك العهد ممّا أثّر بالطبيعة على علاقة تركيا بالمشرق العربي بل والاسلامي، ثم ظهرت حركات النّهوض الجديدة سواء حركة الإمام النّورسي، الّذي أعتقد أنّه لم يُعتنى بموقفه من الناحية السياسية، وأن كلمته "تعوذ من السياسة كما تتعوّذ من الشيطان الرّجيم" انسحبت دون فهم كل حياته ومواقفه وقرار مشاركته في الديمقراطية الأولى، فلو كانت ديمقراطية صحيحة بالنسبة له، لطور مشاركته.

فاختُزِلت تجربته ولم تُفهم جيدًا وقد قرأت واطّلعت على عدد من كتبه وكتب المحسوبين عليه من أفرع الحركة النّورسية إذا جاز التعبير، وصولًا إلى علاقتها بالحركة الإسلامية الحديثة والأستاذ نجم الدين أربكان بكل مراحل التّجربة السياسية، وحتى كتب أ. فتح الله غولن، اطلعت على العديد منها.

- ماذا عن الحركة الإسلامية التركية أ. مهنا؟

ما بين أردوغان وأربكان والعرب والترك الإسلاميين

"المجتمع الديني إذا شعر أنّك مُنافس له على الحالة الاجتماعية الدينية سيقف موقفًا مضادًا لك"

هذا السؤال يقودنا هذا إلى فصل في كتابي الأخير عن الفرق بين الحركة الإسلامية العربية والحركة الإسلامية التركية، وهو تفصيل يطول شرحه.

 وقد كانت للحركة الإسلامية التركية جذور مع القاعدة الدينية للمجتمع حتى في عهد الأستاذ نجم الدين أربكان والمعروف أنّ القاعدة الدينية للإسلام في تركيا هي الحركة الصوفية، وهناك طرق صوفية لها إشكاليات وممارسات سلبية وهناك طرق صوفية معتدلة ومنهجها الرّوحي العام لا يتصادم مع الفكر الإسلامي في الحياة الاجتماعية السياسية وتوجهها.

وقد كانت قاعدة مهمة لكل البعث الإسلامي الحديث في تركيا وشكلت للأستاذ أربكان قاعدة انطلاق أيضا، لكنّها لم تصل إلى الدرجة التي صُنِعَت فيها فلسفة الحركة الإسلامية الثانية فترة حزب العدالة والتّنمية الّتي عزّزت العلاقة مع المجتمع الديني، لأن المجتمع الديني إذا شعر أنّك مُنافس له على الحالة الاجتماعية الدينية سيقف موقفًا مضادًا لك، وهذا ما كان يقلق بعضهم مع مشروع أ. أربكان رحمه الله.

ولذلك كانت الحركة الصوفية في المجتمع التركي مشتركة بين حزب الوطن الأم وحزب الطريق القويم بقيادة تانصو تشيلر وبين أربكان، ولكنّها مالت أكثر لصالح حزب العدالة والتنمية الذي أتى بفلسفة جديدة تخدم حقوق المسلمين في الحياة الاجتماعية في دولة علمانية كتركيا، وتخدم المتديّنين ولكنّها لا تُنافسهم على مقاعد الصّراع على الدّروس الدينية أو الوعظ الديني أو لأجل المنبر.

- هل للأستاذ أربكان زاوية تاريخية؟

"أعجبني الأستاذ أردوغان عندما تحدث في خطابه التاريخي قبيل الانتخابات الرئاسية وثبّت أربكان كرُكن من أركان الحياة السياسية التركية الحديثة"

لقد تابعت تجربة الأستاذ أربكان كنائب لرئيس الوزراء في حكومات التحالف البرلماني السابقة، وهناك قضية يجب أن تثبت تاريخيًا، يجب أن نتذّكر كلنا جميعًا كمسلمين وكإنسانيين أن قبرص كان من الممكن أن يكون فيها كما جرى من نماذج في البوسنة والهرسك وفي صربيا، والذي أوقف هذا المشروع هو الأستاذ أربكان عندما كان نائبًا لرئيس الوزراء.

 عندما تدخل الجيش التركي بمشروع قرار من عنده كنائب رئيس وزراء مكلف وعزلت قبرص التركية حتى تتم مصالحة اجتماعية سياسية حقيقية وليس تحت حكم المتشدّدين المتطرفين المسيحيين.

وتجربة الأستاذ أربكان لوحدها تجربة ثرية، وقد أعجبني الرئيس رجب طيب أردوغان عندما تحدث في خطابه التاريخي قبيل الانتخابات الرئاسية وثبّت أربكان كرُكن من أركان الحياة السياسية التركية الحديثة، هذه المعاني الإيجابية تدل على أن الحركة الإسلامية في حزب العدالة لا تجحد ولا تُنكر دور الحركة الإسلامية الأم التي أدارها نجم الدين أربكان ولا إرثها الاجتماعي والثقافي وإن اختلفت معه اختلافًا مهمًا أحدث فارقًا كبيرًا على مستوى الفكر الإسلامي المُعاصر.

- هل العلاقة بين العرب والأتراك علاقة سياسية أم ثقافية؟ وهل تحول العلاقة السياسية دون العلاقة الثقافية؟

العلاقة مع تركيا بالتفسير الجغرافي والتاريخي البسيط هي علاقة الإنسان المشترك في الشرق.

ومع الأسف أصبحت علاقتنا داخل الشرق متوترة جدا فالمشتركات تتراجع في ظل حركة تطرف واسعة سواء من الأقليات أو من يُحسبون علينا كمسلمين ولكن الشرق الإنساني إجمالًا حمل قيمًا أخلاقية مختلفة عن الغرب. قرأت لأحد الكتاب البوذيين الهنود قوله: "لماذا يعتقد الغرب أنّه مبشر بحضارته؟ نحن أصحاب الحضارة الأخلاقية في الشرق"، وتكلّم عن العائلة والعلاقات بين الأفراد والرّوح، كقيم إيجابية مشتركة للشرقيين، وأقول تأكيدا للكاتب الهندي، على سبيل المثال فإنّ ما أنتجه الغرب فيما يتعلق بقضية المثلية الجنسية يُسجّل على أنّه كارثة في التاريخ البشري.

نحن مع الأتراك أبناء هذا الشّرق الكبير، أضف إليه إضافة عظيمة أنّنا أبناء المشرق الإسلامي. لاحظ أن مشكلتنا مع إيران ليس لأنّها إيران وليس لأنّها فارس، وأنا أرى رغم أنّني متخصّص في الشّأن الإيراني بأنّه لا يجب أن نقول أنّ مشكلتنا معهم هي في أنّهم فُرس، فالفُرس أمّة أعجمية دخلت في الإسلام، إلا أن مشكلتنا هي مع الشيعية الطائفية السياسية التي خلقتها إيران، واستدعائها القومية الفارسية كمناهض للغالبية الإسلامية.

- أين مساحة التوافق والاختلاف؟

"هناك طبائع اجتماعي مختلفة للشّعوب وللديموغرافيات تحدّث عنها الإمام ابن خلدون يجب أن نعترف بها واقعيًا"

الثقافي الكبير الثّابت بيننا وبين تُركيا ثابت على مدى الزمن وهو الإسلام، وهُناك إشكالية في مسألة التّعامل مع المشترك الثقافي بيننا وبين الأتراك، هُناك جامع مشترك وأصول كبيرة ومنتج نحتاج أن نعمل عليه عشرات السنوات حتى نستخلص الفكر الحضاري الإسلامي لنا جميعًا في هذا الشرق الإسلامي ونبشّر به العالم.

لكن هناك طبائع اجتماعية للشّعوب وللديموغرافيات تحدّث عنها الإمام ابن خلدون يجب أن نعترف بها واقعيًا، يعني ستظل هناك فوارق وطبائع لا تناقض الأخوة الإسلامية، ولكن بطبيعة الحال حتى في المجتمع العربي هناك مدرسة الشام ومدرسة مصر ومدرسة اليمن ومدرسة حواضر الجزيرة العربية وفي الخليج كلّها لها طبائع تختلف بينها.

"قراءة العجم للإسلام قراءة إضافية وليست سلبية، فقد أصبحوا يفهمون بعض الأمور أفضل ممّا يفهمها بعض العرب وإن كان للعرب سبق ولكنّهم شكّلوا إضافة"

هُناك نقطة إيجابية جدًا في تلقّي الإسلام، نحن نتحدث عن دين ورسول صلى الله عليه وسلم، بعث للعالمين وكل رحلة الزمن الأخير للبشرية، فهو يملك من الثقافة الاجتماعية والمشتركات الإنسانية والحياة الدستورية وطبائع الناس لهذه الأمم الكثير في استنباطاته.

فكانت قراءة العجم للإسلام قراءة إضافية وليست سلبية، فقد أصبحوا يفهمون بعض الأمور أفضل ممّا يفهمها بعض العرب وإن كان للعرب سبق ولكنّهم شكّلوا إضافة. هذه المشتركات في فهم الإسلام الصّحيح وليست صناعة الطائفية التي أنتجتها لنا الجمهورية الإيرانية بعد عام 1979 والتي أساءت بحيث أصبحت العلاقات بين الفرس والعرب أسوأ بكثير من مرحلة الشاه وهم يتحدثون هنا عن واجهة دينية.

لكن تركيا أيضا لها إرثها الاجتماعي وهي غنية ثقافيًا.

ونحن نطلب من الأتراك أن ينفتحوا على الثقافة العربية، وهُم يفعلون في الجانب الإسلامي. وقد كُنت مع أحد الأصدقاء الاتراك ودخلت مكتبة لمؤسسة ثقافية، وإذا نصف المكتبة أو أكثر من النصف ترجمة لكتب عربية.

ولذلك فالانفتاح على الثقافة التركية حاجة عربية أيضا، في الآداب والاجتماع والفنون والفلسفة وتاريخ الشعوب ورؤيتها إسلاميًا هو موجود عند الأتراك بصورة مختلفة عن العرب، فهذه فائدة كبيرة، وكلما توسعت ثقافة الإنسان كلما أصبح الإنسان حضاريًا قادرًا على العطاء لوطنه ولأمّته.

- وماذا عن السياسة وتفاصيل الشيطان ما المطلوب عربيا وتركياً؟

فيما يتعلق بالمنحى السياسي فنحن يجب أن نتعامل معه اليوم ببراغماتية، قد يتساءل أحدهم: براغماتية ونحن مسلمون؟ أنا أرى أن هذا التعامل سليم، لأن الدخول في الأيديولوجيات يثير إشكاليات كبيرة جدًا، فلا تزال تركيا دولة يقود التوجه الإسلامي حزبًا مؤثرًا فيها لكنّها دولة ذات تعدّدية سياسية وفيها توجهات مختلفة.

وهذا لا يمنع الرّابطة الأممية بيننا من أن نتعامل في السياسة تعاملًا براغماتيًا ومصلحيًا، ومن مصلحة المشرق العربي اليوم أن يكون متعاونًا مع تركيا الحديثة بفريقها الإسلامي الذي يحكم اليوم، وهنا العلاقة قد تصل إلى درجة الأمن القومي المشترك بيننا وبين الأتراك.

 أعتقد أن الوعي الإسلامي والاجتماعي المعتدل سيكون هو الباقي في تركيا، وبالتالي من مصلحتنا أن تكون لنا علاقة وأن تكون لدينا مشتركات وندافع عن علاقتنا، وعلاقتنا بالضرورة تخدم قضية فلسطين وقضية المسجد القُدس والمسجد الأقصى والقضية السورية.

- سوريا اين تقف اليوم في هذه العلاقة؟

"أحد أسباب أزمة القضية السورية وتطوراتها وميلاد التطرف الذي شكله داعش بعد التطرف الإرهابي من الأسد والمنظومة الأيديولوجية الإيرانية هو أنّها لم تحل بتعاون تركي عربي كافي"

على سبيل المثال، لم تتوقف المذابح في سوريا لأربع سنوات، وانتقلت قضية اللاجئين إلى مسألة هجرة احتجاجية للبحث عن مأوى للمستقبل، ولسان حال السوريين: لن نقبل أن تُدار علينا فلسفة الحروب لمصلحة الروس والغرب فسنذهب إلى مأوى، وما دمتم حرمتمونا من أن يكون لنا مأوى إذًا سنذهب إلى بلدانكم.

هذا الموقف الإنساني لا يُنكر للحركات الإنسانية في أوروبا كما لا يُنكر وجود قانون حقوقي، لكن أوروبا السياسية مسؤولة في الوقت نفسه، إن أحد أسباب أزمة القضية السورية وتطوراتها وميلاد التطرف الذي شكله داعش بعد التطرف الإرهابي من الأسد والمنظومة الأيديولوجية الإيرانية هو أنّها لم تحل بتعاون تركي عربي أكبر بكثير مما جرى.

وهذا الحل الذي يحاول الأتراك انتزاعه من الأمريكيين اليوم، مقابل تسهيلات جديدة في قاعدة إنجرليك وغيرها، طُرِح المنطقة الآمنة ومعناها تأمين المدنيين وتحييد الذّراع الذي يلويه النظام للشعب السوري وهو قتل المدنيين وبالتالي تَقوى المعارضة الميدانية الثورية في مناطقها ويُؤمّن لجوء باستقرار اجتماعي مرحلي، فات علينا هذا التّعاون سابقًا، ومع الأسف تطوّرت الأمور سلبا.

"لا يخشى الغرب من حكم الإسلاميين فقط... لكنه يخشى من ميلاد دولة ديمقراطية أو شبه ديمقراطية في عُمق المشرق العربي الكبير"

أرى أن الثورة السورية خسرت بإسقاط رمزية الجيش السوري الحر، ونعرف جيدا ان هذا المصطلح رمزي، وليس هيكلة قوية على الأرض، لكنه كان مظلة مهمة بدلا من الواقع المر الذي تلاه واشاعة الميدان بين جماعات الهجرة ومموليها.

وليست صحيحة برأيي الادّعاءات التي أُطلِقت بحق الجيش السوري الحر فتوجهه إسلامي ووطني اجتماعي تحت راية الشعب المسلم، ومن كان يُقاتل في صفوف الجيش الحر هو مسلم مجاهد ويقوم بالدفاع حتى لو أُطلقت عليه تسمية ثائر.

 ورغم أنّني أعرف أن دور الجيش السوري الحر لم يكن مركزيًا، إلا أن خسائر الثورة السورية من دخول المتطوعين الذين تحوّل بعضهم إلى بُغاة مثل داعش وغيرها كان خسارة كبيرة جدًا، وهذا الأمر كان يُمكن أن يُعالج بتعاون تركي عربي من البداية بدون موافقة الغرب.

فلا يُمكن أن يواجه الغرب الدول العربية الخليجية وتركيا إذا اتّفقت على حل المسألة وطلبت الدعم الدولي، صحيح أن الموقف الأمريكي والروسي مؤيد لإسرائيل ويهتم فقط بأمنها القومي بالتالي فإن سقوط النظام يهدد الأمن القومي لإسرائيل، وعليه هذا هو الموقف الحقيقي للغرب، لكن لو فرضت المنطقة الآمنة سيتعامل مع القرار.

ولا يخشى الغرب برأيي من حكم الإسلاميين فقط، ولكنه يخشى حتى من ميلاد دولة ديمقراطية أو شبه ديمقراطية في سوريا، الغرب جاد في خشيته من أن تكون هناك دولة في عُمق في المشرق العربي الكبير وأكبر عُمق على الإطلاق وهي الشام، دولة مستقرة سياسيًا تُحكم بطريقة شبه ديمقراطية ويكون للإسلاميين حضور فيها. هذا هو الموقف الطبيعي للغرب، وقد ذكرته من بداية المقالات على مدى 4 سنوات.

- ما هو الجديد في علاقة أنقرة بالرياض؟

"هناك نوع من المراجعة والتصحيح الإيجابي... بين السعودية وتركيا"

الآن هُناك نوع من المراجعة والتصحيح الإيجابي، خاصة من بين القطبين المملكة العربية السعودية وتركيا، وهذا الموقف انعكس بصورة واضحة وتجاوز مرحلة التّلاسُن، وحتّى التّلاسن الإعلامي الأخير من قبل بعض الكُتّاب، لم يُغير برأيي هذا التّوجّه الجديد بأنّ العلاقة مع حزب العدالة والتنمية جزء من المصالح الاستراتيجية للمملكة، كما ترى حكومة العدالة لتركيا العلاقة مع المملكة جزءًا من المصالح الاستراتيجية المشتركة.

وأعتقد أن هناك تواصلًا فيما يتعلق بمسألة المنطقة الآمنة التي أعلنها أحمد داود أوغلو مؤخرًا ونرجو أن تتحقق، والسعودية أعلنت دعمها حسب تصريح داود أوغلو لمشروع المنطقة الآمنة.

اليوم هُناك تعزيز للعلاقة، وقد اتى في إطاره زيارة الأمير محمد بن نايف إلى تركيا بعد الموقف الإيجابي من الرئيس أردوغان من حرب اليمن، حيث شرحت الرّياض أن ما يجري ليس حربًا طائفية وطرحت الشروط المطلوبة من إيران، وعندما يصل الرجل الثاني في الدولة ويبلغ تركيا ويعدّها شريكًا تعتمد عليه في إبلاغ الرسالة لإيران، ففي ذلك مؤشر إيجابي ونوعًا من الثقة المشتركة، وهذه إحدى رسائل تحسن العلاقات في هذه المرحلة، بالنسبة للوضع السياسي الإقليمي الخاص.

- ماذا عن تركيا والتضامن الإسلامي؟

"تركيا اليوم... تحتضن غزّة معنويًا وروحيًا وإنسانيًا"

الوضع السياسي الإقليمي العام، يقرأ بصورة موضوعية دون مبالغة، فتُركيا دولة لم تستقر فيها الديمقراطية السياسية والنّظم الدّستورية فترة زمنية كافية، حتى تصل لمرحلة الحقوق الدستورية كما هو الغرب.

ويجب أن نعترف أن نظام اللاجئ في أوروبا يعطي كفالة حقوقية أكبر، تُركيا العدالة والتنمية فتحت ما تستطيع واستضافت ثلاثة ملايين لاجئ وفق إحصاءات غير رسمية، وتركت للاجيء أن يكون في المُخيّمات أو يخرج منها، وأتاحت لمن يجد فرصة عمل بأن يخرج، ولكن في الوقت نفسه نُلاحظ ظروف العمل القاسية والوضع الاقتصادي الضيّق ومن الطبيعي ألا تُغطّى كل هذه الاحتياجات.

وتُركيا اليوم تتبنّى كذلك مشروع الممر المائي لغزّة، وهناك مفاوضات سرية أعلن عنها الأستاذ خالد مشعل لفك الحصار قبل فترة، وهي اليوم التي تحتضن غزّة معنويًا وروحيًا وإنسانيًا، وهذا جُزء من أعمالها.

وكما رأينا مؤخرًا في مسألة الروهينغا لأول مرة تتحرك القوات المسلحة لأي جيش مسلم لدعم انساني، ففي الوقت الذي كانت فيه ماليزيا تطرد اللاجئين من الروهينغا كُلِّف الجيش التركي بأن يجوب ماء البحار ويُنقذ هذه القوارب وأُلزِمت ماليزيا وإندونيسيا باتّفاق أدبي مع تركيا بأن تحتضن من تغوثهم البحرية التركية.

تقدّمت تركيا في عالم السياسة في الشرق الإسلامي كثيرًا في عهد حزب العدالة ومن الظّلم أن يُجحد هذا المجهود الكبير الذي تقدّمه، ولكن في الوقت نفسه ليس من الضرورة أن يتصور الإنسان أن الدولة الفاضلة ولدت في تركيا، أنا أقيم في تركيا فترات من أجل مكتبي الذي أتردد بينه وبين السعودية، هناك ظروف وصعوبات للداخل التركي والمقيم.

 لكنّنا أمام تجربة سياسية قدمت من عام 2003 إلى اليوم فائدة للمجتمع التركي بالقيم السياسية في العالم المعاصر وقدّمت ثقافة دستورية بدأ الناس بممارستها تغيب عن كثير من الدول الاسلامية، لكن يجب أن نتذكر أن ميلادها قريب، يعني إذا كان عام 1995 بداية العمل السياسي الديمقراطي في تركيا ففي عام 2003 عزّز باستلام حكم حزب العدالة المعارض الحكم وهي اهم القيم الديمقراطية لتركيا، ولكن لا تزال أمام تركيا مهمات كبيرة نتمنّى أن تنجح، لأنّني أعتقد أن نجاح التجربة الديمقراطية في تركيا من كل الجهات هو أمن قومي اجتماعي لكل الأتراك.

- ماذا تعني إسطنبول للمثقف؟

سمعت عن إسطنبول مقولة أعجبتني عندما دخلها العثمانيون وكان فيها من قبل البيزنطيون والرومان وأتت هجرات التّتار من المسلمين ومناطق القوقاز وصفها أحد الكُتُب "فخُلِقت إسطنبول من جديد".

هذا تعبير جميل عن التّجانُس الاجتماعي البشري، طبعًا كلُّه تحت خلق الله ورعايته، هذا خلق دون خلق، ومن المعروف أن النظام العلماني في تركيا أخذ بُعدًا ينزع إلى التطرف حتى على صعيد أخلاقيات الأسرة وآداب الأسرة المُحافظة، حتى بعض ما يطالب به المسيحيون المحافظون على سبيل المثال قد لا تجده في إسطنبول.

ويتجنب الإسلاميون السياسيون الخوض في مثل هذه الإشكاليات مثل مسائل الحرية الشخصية وهذا رأي عاقل، ولكن في نهاية الأمر سيكون لديهم دور لكي يُقبل الشعب طوعيا على دعم قضية القيَم، ليس عن طريق الوعظ الخشن أو الإساءة أو كتم الحريات، لكن كي تكون إسطنبول جمال الطبيعة وجمال الروح معاً.

أما عن قُدوم الإخوة المسلمين الجدد، فإسطنبول فيها رائحة الشرق الإسلامي والمساجد العتيقة، لديك مدينة طبيعة ساحرة جميلة، ونُظم تطورت مدنية السياحة فيها بسبب النظام السياسي الأخير، ولكن يجب أن نكون حذرين أيضًا، فلا تزال هناك صعوبات في التقدم السياسي في القوانين والأمور ليست كما هي في أوروبا، يجب أن تكون هذه الصورة واضحة عند الناس فأوروبا لا تزال مختلفة.

ولكن تبقى روح إسطنبول الجميلة التي تجدها في حديثك مع الطبيعة من البسفور الى تلال آسيا المطلة، وأعظم رسائل هذه الطبيعة هي المساجد العتيقة التي تمتد لمئات السنين.

 التقيت وأنا ذاهب إلى مسجد السلطان أحمد بأحد الصينيين ناصبًا الكاميرا ويتأمّل في المسجد كأنّه يُحدّثُه، سألتُه: فعلمت انه غير مسلم من مواطني الصين الشعبية؟

 فأجابني: وهو في لحظة ذهول امام المسجد، كيف تعيشون مع المسجد، أعطني لُغة أُصوّر بها هذه المشاعر.

تصوّر كيف أن المسجد العتيق يُخاطب هذا الشخص غير المسلم بلغة تبهره، انها قصة مساجد إسطنبول العتيقة.

"إسطنبول البوسفور وإسطنبول المنائر التي لا تُعد، إسطنبول علاقة الأرض بالسماء، إسطنبول في جمال الطبيعة وجمال البيئة في هذه الأرض"

ويجب أن أُشيد بفكرة تنظيم دخول السياح بملابس محتشمة إلى المساجد ونشرات التّعريف والذي حدث في أيا صوفيا مؤخرًا، بعد ذلك بأن يُتلى القرآن وتتبعه ترجمة للمعاني، هذه أيضًا رسالة تبشير جميلة جدًا بالإسلام، وهي فكرة جيدة، ليستمع الغرب ولينظر إلى هذه المساجد ذات الفلسفة العظيمة، فإسطنبول البوسفور وإسطنبول المنائر التي لا تُعد، إسطنبول علاقة الأرض بالسماء، إسطنبول في جمال الطبيعة وجمال البيئة في هذه الأراضي، التي حافظت على أسوارها البيزنطية، كدليل تسامح المسلمين، ولكنّ رسالتها الإسلامية متضمّنة بداخلها، وبقيمها الراشدة.

وأمامها مسيرة وإن شاء الله تكون إسطنبول المدينة الفاضلة بقيم إسلامية تصلُح للبشرية كلّها، أكيد أن إسطنبول مختلفة ولا شبيه لها في العالم.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!