د. علي بكراكي - خاص ترك برس

شهد مطلع القرن المنصرم أحداثًا تاريخية كبرى كان من أبرزها سقوط إحدى أكبر إمبراطوريات الأرض وزوال خلافة إسلامية دامت بالتواتر أكثر من ألف وأربعمئة سنة. لقد لفظت الدولة العثمانية أنفاسها الأخيرة بعد الحرب الكونية الأولى، وجاءت معاهدة سيفر عام 1920 التي استبدلت بمعاهدة لوزان عام 1923 لتكون وثيقة وفاة رسمية للإمبراطورية العثمانية واستبدالها بالجمهورية التركية.

نشأت هذه الدولة الجديدة بين آسيا وأوروبا في موقع جغرافي متميز من النواحي العسكرية والاقتصادية والجيوسياسية. وعلى الرغم من أن الدولة الحديثة قد ألغت كل مظاهر الخلافة العثمانية وقطعت كل صلات الوصل بها، إلا أنها بقيت في أعين الجميع وريثة السلطنة التي دام حكمها ست مئة عام ونيف. لقد أطلت الجمهورية الجديدة بوجه مغاير عن العثمانية تمامًا واتخذت لنفسها شعارًا يقول (صلح في الوطن وصلح في العالم) لتعلن بالتالي نظرتها إلى السياسة الخارجية ورغبتها في اتخاذ موقع خاص بها بين سائر البلاد... وفعلًا وانطلاقًا من هذا الشعار فقد استطاعت تركيا أن تنأى بنفسها عن أحداث الحرب العالمية الثانية وأن تبقى في مكان المتفرج السلبي الذي انعكس لاحقًا عليها بتكريس خروجها من جميع المعادلات السياسية العالمية والإقليمية. لقد مكثت تركيا في قوقعة وشبه عزلة عن كل ما يجري في العالم الخارجي لمدة فاقت خمسين سنة، كما أنها ورثت مشاكل إثنية وحدودية كثيرة مع معظم جيرانها، كما حملت أوزار قضايا متعددة ليست القضية الأرمنية إلا واحدة منها.

لقد أراد راسمو الخرائط ومقسمو تركة الرجل المريض وقتئذ أن لا تقوم لتركيا قائمة من جديد. فكانت كل مخططاتهم تصب في خانة واحدة وتخدم هدفًا واحدًا هو تغريب تركيا وتشويه صورتها بشكل لا يقبله شرق ولا غرب على حد سواء. فالغرب لم ولن ينسى جبروت الجيوش العثمانية وصولاتها في حروب كاسحة تكاد توصف بالخيالية حتى وصلت جحافلهم الى حدود فيينا. أما الشرق فكان عليه معاداة الجمهورية التركية التي فصلت الدين عن الدولة واستبدلت الحرف العربي باللاتيني وجعلت من نفسها وطنًا قوميًا للأتراك الذين أتت بهم أمواج الهزائم العثمانية المتتالية خلال القرن التاسع عشر وبداية العشرين من كل أصقاع الأرض ووضعتهم في بقعة جغرافية محاطة بقوميات وإثنيات مختلفة لم تكن على وئام مع الأتراك خلال أواخر فترة حكمهم عند شيوع الفكر القومي والنزعات العرقية في كل مكان. من هنا شاع في البلاد مثل يقول (ليس للتركي صديق إلا التركي) ليزيد من عزلة هذا الشعب وهذه الدولة الجديدة فترة أخرى من الزمن.

إن أول من بدأ بتخفيف الإجراءات العلمانية الصارمة وأعطى المزيد لحرية المعتقد والتطبيق الديموقراطي الفعلي في الجمهورية التركية هو علي عدنان مندريس الذي أعدم شنقًا بعد انقلاب عام 1960. ولكن أول من نادى بوجوب كسر العزلة والانفتاح على العالم العربي والإسلامي كان البروفسور نجم الدين أربكان الذي يعتبر مؤسس العمل الإسلامي في تركيا. لقد وضع أربكان تصورات سياسية وخططًا اقتصادية تصب في إنشاء سوق إسلامية مشتركة تكون فيه تركيا قلبًا نابضًا وعضوًا أساسيًا محركًا وفاعلًا. إلا أن جميع الأحزاب السياسية التي قادها أربكان لم تستطع أن تجد إلى الحكم سبيلًا إلا من خلال حكومات ائتلافية فشلت جميعها في فتح قنوات حقيقية مع العالم العربي والإسلامي. في المقابل، كانت هناك تيارات قوية في تركيا ترفض مجرد الحديث عن انفتاح عربي وإسلامي وتنادي بالإنضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة والدخول في الإتحاد الأوروبي. وبين هذا وذاك، كان هناك نهج آخر اتسم بالقدرة على إرضاء الجميع وسار قدمًا في انفتاح متميز مع الجمهوريات التركية التي ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. لقد كان الرئيس تورغوت أوزال عراب هذا الطريق، فأعطى حريات متزايدة للتيارات والجمعيات الإسلامية في تركيا دون أن يثير حفيظة التيارات الليبرالية والعلمانية لأنه جعلها تحظى بنفس القدر من الحريات وممارسة النشاطات السياسية وغيرها.

يقول بعض المحللين أن الرئيس أوزال كان يعلم يقينًا تعطش المجتمع التركي للإسلام وأن سياسته سوف تثمر في إحداث وثبة كبرى لإعادة اللمحة الإسلامية لتركيا العلمانية. لقد استطاع أوزال أن ينقل تركيا من حقبة الانقلابات العسكرية التي كان آخرها عام 1980 إلى مرحلة الجمهورية الديموقراطية الحقيقية التي أعادت للشعب التركي استقلاليته وقدرته على اختيار ما يريد. لقد تهيأت الأرضية والمناخ لولادة أحزاب سياسية كثيرة كان منها حزب العدالة والتنمية الذي أسسه الرئيس رجب طيب أردوغان والرئيس عبد الله غُل مع رفاقهم المنشقين عن حزب الفضيلة في 14 آب/ أغسظس 2001.  يصف الحزب نفسه  بأنه يتبع مسارًا معتدلًا غير معادٍ للغرب، وأنه يتبنى رأسمالية السوق الأوروبية ويسعى لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، كما يقول أنه حزب محافظ  يمثل تيار الإسلام المعتدل في تركيا. لقد استطاع حزب العدالة والتنمية أن يحصد الغالبية المطلقة ويصل الى الحكم في تركيا عام 2002 ولا يزال الحزب الحاكم حتى يومنا هذا.

إن تواتر الشخصيات التي أعادت روح الإسلام إلى المجتمع التركي تجلت في صور وشعارات رأيناها بكثرة خلال الفترة القليلة الماضية حيث رفعت يافطات عليها صور السلطان عبد الحميد وعدنان مندريس وتورغوت أوزال ورجب طيب أردوغان كتب تحتها: عزلتموه وشنقتموه وسممتموه... ولكننا لن نتركه لكم لتأكلوه! إن هذا الشعار وحده يكفي لقياس نبض الشارع التركي ورؤيته للأمور. صحيح أن هناك تيارات لا تزال تناهض هذا النهج وترفضه إلا أن الاتجاه العام في البلاد كافة لم يعد يقبل بالعودة إلى عهد الانقلابات العسكرية والقوقعة السياسية والانعزالية الاقتصادية التي كسرتها منهجية حزب العدالة والتنمية في الفترة الماضية.

إن من حق تركيا أن تكون دولة إقليمية لها كلمتها في المنطقة، وهي عمليًا تقع اليوم في عين العاصفة وقلب الأحداث التي يمر بها الشرق الأوسط كله وخاصة سوريا، تلك الدولة الحدودية الجارة التي يتهددها مستقبل غامض وتغييرات ديموغرافية وجغرافية وسياسية كثيرة سيكون لها أثر مباشر على المنطقة كلها وخصوصًا على الجمهورية التركية التي تواجه اليوم مخاضات عسيرة في المنطقة وأمورًا عسكرية خطيرة أصبحت على عتبات حدودها بعد دخول روسيا أتون الحرب السورية بشكل علني.

إن الجمهورية التركية اليوم تقف أمام تحديات جسام، وهي أحوج ما تكون فيه إلى الإستقرار واستمرار الأمن والسلام في البلاد التي عرفت ازدهارًا لا مثيل له خلال العقد الماضي من الزمن، كما استطاعت أن تناور بدراية دون ان تغرق في الوحول الإقليمية، وأن تقول دائماً أنها لن تقبل بأي أمر يهدد أمنها القومي وأنها مع تحقيق العدل والسلام الكامل والشامل في الشرق الأوسط والعالم، وتقف مع المظلوم في وجه الظالم مهما كلف الأمر من تضحيات وثمن.

عن الكاتب

د. علي بكراكي

رئيس الملتقى اللبناني التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس