إسماعيل ياشا - العرب القطرية

وسائل الإعلام في تركيا معظمها تقف ضد إرادة الشعب منذ الانتقال إلى التعددية الحزبية في منتصف أربعينيات القرن الماضي وفوز الحزب الديمقراطي برئاسة عدنان مندريس بالانتخابات بأغلبية ساحقة أمام حزب الشعب الجمهوري برئاسة عصمت إينونو، واستهدفت جميع رؤساء الأحزاب التي نالت ثقة الشعب التركي بدءا من عدنان مندريس وصولا إلى تورغوت أوزال ونجم الدين أربكان، كما استهدفت سليمان دميرل حين كان رئيسا للوزراء إلا أن هذا الأخير بعد أن أصبح رئيسا للجمهورية وفي أواخر حياته انحاز إلى المعسكر الذي تنتمي إليه وسائل الإعلام تلك وبالتالي نجا من هجماتها.

وسائل الإعلام نفسها تستهدف اليوم إرادة الشعب التي تتمثل في رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان الذي حصل في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية على أكثر من 51 بالمئة من أصوات الناخبين، كما تستهدف حزب العدالة والتنمية الذي جاء في المرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية الأخيرة وحصل على حوالي 41 بالمئة من الأصوات.
وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم يطلق عليها «السلطة الرابعة»، أي أن سلطتها تأتي بعد السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، إلا أن وسائل الإعلام في تركيا اعتبرت نفسها دائما السلطة الأولى، أي فوق السلطات الثلاثة كلها وفوق إرادة الشعب. وفي رسالة نشرتها صحيفة «حرِّيت» التركية في عددها الصادر في 19 أبريل 1988 تحت عنوان: «إلى رئيس الوزراء»، وكتبها صاحب الصحيفة آنذاك «أرول سيماوي» إلى رئيس الوزراء تورغوت أوزال، هدَّد سيماوي بكل جرأة ووقاحة رئيس الوزراء المنتخب الذي اشتكى من نشر وسائل الإعلام تقارير كاذبة، وقال له بالحرف الواحد: «إنك تنسى حقيقة وهي أنك قد تتحول إلى كلب كبير وتهاجم قطا صغيرا ولكنه يخمش وجهك ويمزقه دفاعا عن نفسه. وبالتأكيد أنت لست ذاك المخلوق كما أننا لسنا بقطط، ولكني أعود وأؤكد: نحن أصحاب النزل وأما أنت فمجرد عابر سبيل سيرحل بشكل أو آخر»، في إشارة إلى أن الحكومات تحكم البلاد فترة من الزمن ثم ترحل وأما سلطة الإعلام فتبقى.

وفي تلك الرسالة الشهيرة التي نشرت آنذاك بعنوان عريض على الصفحة الأولى من صحيفة «حرِّيت» التركية، أشار سيماوي إلى أن وسائل الإعلام في تركيا ليست السلطة الرابعة، بل هي تشكِّل السلطة الأولى، وأن سلطة الجيش تأتي بعد سلطة الإعلام التي تقوم بتهيئة الأجواء للانقلابات العسكرية. ولم يكن هذا التحدي يأتي من فراغ، بل كان يعكس الوضع القائم، لأن وسائل الإعلام في تركيا لعبت دورا محوريا -كما لفت سيماوي- في إسقاط الحكومات وتحريض الجيش ضد الحكومات المنتخبة. 

تاريخ تركيا مليء بأمثلة للأدوار السيئة التي لعبتها وسائل الإعلام في إسقاط الحكومات وتأليب الرأي العام ضدها. وفي برنامج تلفزيوني شارك فيه، صرح رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان بأن أصحاب وسائل الإعلام هم من كانوا يحكمون تركيا قبل 15 عاما وأن أحد هؤلاء قال له: «نحن نسقط حكومة ونشكل أخرى». وعلى الرغم من عدم كشف أردوغان عن اسم القائل، جاء الرد عليه من رجل الأعمال المثير للجدل، آيدين دوغان، صاحب مجموعة «دوغان» الإعلامية التي تملك صحيفة «حرِّيت» منذ عام 1994، تصديقا للمثل العربي القائل: «الذي على رأسه بطحة يتحسسها». وقال دوغان، في رسالة وجَّهها إلى أردوغان عبر صحيفة «حرِّيت»، كما فعل أرول سيماوي قبل 27 عاما: إنه لم يذكر مثل هذا القول في حق أي رئيس منتخب.

مجموعة «دوغان» الإعلامية، تسعى لإسقاط حزب العدالة والتنمية، سواء اعترف به آيدين دوغان أم لم يعترف، وتحرِّض الشارع التركي ضد أردوغان بشراسة من خلال وسائل الإعلام التي تملكها، وهي جزء أساسي من الجبهة المعارضة التي نجحت في الانتخابات البرلمانية الأخيرة من خلال دعم حزب الشعوب الديمقراطي وتلميع رئيسه صلاح الدين دميرطاش، في الحيلولة دون حصول حزب العدالة والتنمية على عدد من مقاعد البرلمان يكفيه لتشكيل الحكومة وحده. ومن المؤكد أنها ستسعى أيضا حتى الأول من الشهر المقبل لتكرر ذلك النجاح في الانتخابات المبكرة. وهو صراع لا يتعلق بشخص معين، وليس بين رئيس ورجل أعمال، بل هو صراع بين إرادة الشعب وسلطة الإعلام التي ترى نفسها فوق جميع السلطات.

عن الكاتب

إسماعيل ياشا

كاتب تركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس