د. أحمد البرعي - خاص ترك برس

جاءتني ابنتي الصغرى تطلب مني أن أستمع إلى أنشودة تركية حفظتها في ذكرى رحيل مؤسس الجمهورية التركية "مصطفى كمال أتاتورك". تلك الصغيرة كانت فرحة بأنها حفظت أنشودة باللغة التركية وتريد أن تُسمعها لأبيها لتدخل السرور على قلبه. هي لا تعلم أن بطل أنشودتها هو "مصطفى كمال" الذي يصفه البعض بأنه شيطان تركيا الأكبر الذي دمر الخلافة، وفرض العلمانية، واعتبرها الطريقة الوحيدة لتلحق تركيا بركب الحضارة الغربية!! تركيا التي كانت تقود العالم قبل أن تخلق العلمانية!!

هي لا تعلم أن هذا الرجل هو من استبدل الحروف العربية بالحروف اللاتينية لتهجير الناس عن لغة القرآن ولعزلهم عن عمقهم العربي والإسلامي. هي أيضًا لا تعرف أنه، ويا للعجب، جعل النداء للصلوات باللغة التركية وألغى الآذان باللغة العربية. وهي لا تعرف أن الصنداي تايمز بتاريخ 11 شباط/ نوفمبر من عام 1968 قد نشرت وثيقة عرضت فيها أن "مصطفى كمال"، على فراش موته، كان  قد عرض على السفير البريطاني "سير بيرسي لورين" أن يخلفه في إدارة شؤون تركيا، وهو ما نشره "سير بيرسون ديكسون"  في كتابه "Double Diploma: The life of Sir Pierson Dixon" بعد 30 عام من رحيل الرجل.

في ولاية ريزا التركية التي تشتهر بزراعة الشاي التركي وفي أكبر ميادينها، والذي لا يعد استثناء عن سائر ميادين المدن التركية جميعها، يتوسط تمثال "مصطفى كمال" الميدان، لا يقتصر الوجود الأتاتوركي على الميادين التركية بل تعلو صورة الرجل فصول المدارس والجامعات جميعها، وتعلق صورته في كل الدوائر الحكومية والوطنية، بل أزيدك لا ترفع صورة للطيب أردوغان أو داود أغلو إلا وتعلق صورة أتاتورك بجانبها.

في تلك الولاية أراد الناس أن يضعوا تمثالًا لما يمثل مدينتهم، وقرروا بأن يضعوا بدلًا من تمثال "أتاتورك" تمثالا لـ"كأس شاي" ضخم يرمز لما تشتهر به هذه البلدة. ثارت ثائرة الأتاتوركيين، وشنوا هجومًا على والي المدينة وقائم مقامها، وارتفعت أصواتهم مطالبة باحترام شخص مؤسس الجمهورية التركية. فعرض الناس أن تطرح القضية على الاستفتاء ولسكان المدينة أن تقرر. رفضت "رابطة الفكر الأتاتوركي" الفكرة بالمطلق وقال رئيسها "عمر توبراك": "إن قيم ومفاهيم الجمهورية لا يمكن أن يُستفتى عليها ولا أن تعرض لأراء الناس. لا أحد يملك هذا الحق، ولا أحد يجب أن يتجرأ على طرح هذه القضية، فأتاتورك هو جد الأتراك جميعهم وهو من أسس الجمهورية، ولا يحق لأحد أن يعرضه للاستفتاء"

في مقابلة تلفزيونية شهيرة على قناة التركية "خبر ترك" سأل المذيع المشهور "فاتح أتايلي" أحد الطالبات اللواتي يرتدين الحجاب "هل تحبين الخميني؟ أجابت بالطبع أحبه؟ قال لها ولكنه شيعي، قالت وإن يكن، هو مسلم وأحبه وأقدره وأحترمه. قال لها: هل تحبين أتاتورك؟ تنهدت الفتاة وصمتت لبرهة من الزمن ثم تركت كأس الماء من يدها وكأنها وجدت جوابًا شافيا، وقالت: هل لي خيار في أن لا أحبه في هذه البلد؟ إن كنت حقاً أستطيع قول ما أعتقده وأشعر به دون أن تنزل على رأسي المصائب، نعم فأنا لا أحبه".

هل لحب أو لكره رمز وطني والتصريح بذلك من عظيم أثر في تغيير موروثه أو التأثير على من يعتقدون حبه ووطنيته وإخلاصه وفداءه وتضحياته في سبيل الوطن. نعم هناك من يعتقد من صميم قلبه أن "مصطفى كمال أتاتورك" هو حقًا جد الأتراك، ومؤسس الجمهورية، وهو من أخذ تركيا من التخلف والاستعمار والجهل إلى المدنية والتقدم والتطور. هناك من يؤمن بذلك حتى ممن يحبون العدالة والتنمية ويذوبون عشقًا في الطيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية، إلا أن أتاتورك بالنسبة لهم قامة وهامة، لا يضاهيها أحد ولا يدنو من مقامه زعيم أو قائد بما فيهم الطيب أردوغان.

قد تستغرب عندما تعلم أن الطيب أردوغان نفسه في خطابه الشهير قبيل انتخابات السابع من يونيو/ حزيران والذي توافق مع ذكرى فتح القسطنطينية، جاء في معرض خطابه أنه يرغب في أن يرى مجتمعًا ناجحًا منتجًا يستطيع أن يعيد أمجاد الآباء والأسلاف كالفاتح الأكبر السلطان محمد، والسلطان سليمان القانوني، والسلطان عبد الحميد الثاني، وأيضًا الغازي مصطفى كمال أتاتورك. بعض اليساريين المعارضين يأخذون على أردوغان عدم تلفظه بـ"أتاتورك" والتي تعني جد الأتراك، إذ عادة ما يقول "مصطفى كمال" ولكنه في الحقيقية من حين لآخر لا يتورع عن قول "أتاتورك". لك أن تفهم أنه قد يفعل ذلك قناعةً أم سياسةً أم من باب المعاريض أم من باب أنه رئيس الكل وليس الجزء، والرجل وإن كانت له مصائب وأخطاء إلا أنه كان رئيساً مؤسسًا وزعيمًا محبوبًا لدى معظم الناس. فما الفائدة من خطب بغضهم ونقمتهم؟!

فبالنسبة لهؤلاء أتاتورك كان رجل الحرب والسلام في وقت كانت الدنيا كلها ضده. نعم هناك من يؤمن بذلك حتى من الأتراك المعتدلين والمتدينين. بل ويصم آذانه عن أي نقاش أو انتقاد، ليس تجنبًا للجدل ولا خوفًا، إنه حقًا لا يؤمن بكل ما يقال عن الرجل من افتراءات وتزوير للتاريخ، على حد زعمه. حتى وإن اتهمت الرجل بالدكتاتورية وكبت الحريات ومصادرة الحقوق، أجابك ومن في زمانه كان ديمقراطيًا؟! كان زمانه زمان أدولف هتلر وموسيليني فماذا كنت تنتظر منه؟!

غرد المؤرخ التركي البروفيسور "إلبر أورتايلي" قائلًا: "يُشّبه البعض من قام ببناء جسرين وشق طريقين وتشييد مطارين بمؤسس الدولة مصطفى كمال أتاتورك. يا لها من سخرية" فرد عليه أحد الشباب المغردين "ويا لها من سخرية أن يشعر أمثالك بالعار من نسبهم لدولة العثمانيين التي امتدت أراضيها لتشمل قارات العالم الثلاث". يحرص الطيب أردوغان على تعزيز هذا المفهوم دائمًا في أن تركيا ليست دولة قبلية ولا تبدأ نهضتها من ذكرى إنشائها بل تعود في الحضارة والأصالة والجذور إلى قديم الزمن في الدولة السلجوقية والعثمانية ولا يغفل عن تعزيز دور الجمهورية بأن جعل ذكرى تأسيسها المئوية 2023 حلم تركيا الحديثة في الوصول إلى مصاف الدول العظمى اقتصاديا وسياسيًا.

نعم أنت لن تجني شيئًا من وراء إهانة أو تحقير رمز من الرموز أو زعيم من الزعماء. لن تغير كلماتك في معتقدات من يحبونه ويتبعونه ولكن تستطيع أن تفعل شيئين آخرين. أولهما أن تظهر بديلك وتعلي نموذجك وترفع من شأن انجازاتك وتجعل الناس تنشغل بها عن ماضيهم المزيف. يعمد العدالة والتنمية إلى افتتاح المشاريع الضخمة والعملاقة في مناسبات وطنية تتعلق بالراحل أتاتورك، فينطلق الإعلام متحدثًا عن "مرمراي"، مشروع العصر بدلا من الخوض في تاريخ وحياة أتاتورك، تتحدث الصحف عن المستقبل وأكبر مطار في العالم، بدلًا من الحديث عن ماض ملوث.

ثانيًا: تحدث بموضوعية ومنهجية علمية عن الرجل واطرح نقاشًا حضاريًا عن أخطائه وكوارثه دون المساس بشخصه أو من يحبونه، وهذا من حق أبنائنا وجيلهم الذي يتربى على مناهج عقيمة لا تسمن ولا تغني من جوع. هذه المناهج لوثت وعيه وبنت فيه تصورات خاطئة وصور نمطية بعيدة عن الحقيقة والواقع. وهذا ما يعمد إليه أيضًا حزب العدالة والتنمية بإدخال اللغة العربية كلغة رسمية في المنهاج التركي وتدريس القرآن والسنة وفتح مدارس الخطباء والأئمة، كل هذا في مشروع أسماه الطيب أردوغان "الفاتح" تيمنًا بالفاتح السلطان محمد. وهو مشروع لا يقل أهمية عن فتح القسطنطينية عسكريًا، ففتح العقول والقلوب وتغيير المفاهيم والتصورات لا يقل تحديًا وصعوبة عن الفتح العسكري.