د.أحمد البرعي - خاص ترك برس

استقبلت تركيا في أول أيام قمة العشرين التي تعقد في مدينة أنطاليا الساحلية زعماء ورؤساء الدول المشاركة، وأخذت زيارة الملك السعودي طابعًا خاصًا بين أوساط الشباب الأتراك وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، إذ لاقى الملك السعودي ترحيبًا واسعًا بين الأوساط شبيبة العدالة والتنمية، خاصة في الوقت الذي أُعلن فيه عن أن الطيب أردوغان يعتزم زيارة المملكة الشهر المقبل، بما يعطي دلالة واضحة عن التقارب الملحوظ في "بعض" الملفات الساخنة وليس كلها.

لفت الانتباه نوعية الوزراء الذين شاركوا الطيب أردوغان والملك السعودي مأدبة الغداء، إذ حضر كل من وزير المالية التركي، "محمد شيمشيك"، ورئيس جهاز الاستخبارات المركزية، "هاكان فيدان"، والمستشار السياسي المقرب جدًا من أردوغان والمحب جدًا للعرب، "إبراهيم كالين". كان حضور هذه المجموعة من الوزراء والسياسيين ترجمة واضحة لطبيعة الملفات التي ستوضع على طاولة الحوار والمناقشة، فالأزمة المالية التي قد تشهدها المملكة بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي القلق للجمهورية التركية في ظل الظروف الإقليمية والدولية المتلاطمة قد فرض أولوياته على أجندة اللقاء. هذا بالإضافة إلى الاتفاق الروسي الأمريكي على الفترة الانتقالية للوضع في سوريا، والملف الأمني للمنطقة برمته أضحى ملحًا بقوة مستدعيًا اتخاذ تدابير وخطوات متقدمة وسريعة للحيلولة دون فرض حلول سياسية ستكون عواقبها وخيمة على المنطقة إن لم تجد سناريوهات تلبى رغبات الشعوب وتطلعاتها.

ما استرعى الانتباه، على هامش هذه القمة، لم تكن الأجندة السياسية بقدر ما كان تعبيرات الوجه والحميمية التي أظهرها الطيب أردوغان عند لقاءه بالملك السعودي. واستُحضر للأذهان الفيديو الشهير الذي يجمع الطيب أردوغان بالرئيس الأمريكي باراك أوباما، إذ ما إن وضع أوباما رجلًا على رجل في ذلك المشهد، بارده الطيب أردوغان بحركة كان واضحًا أنها مقصودة، وجاءت كردة فعل على ما قام به "أوباما".

لا يكاد يخلو لقاء تلفزيوني للرئيس التركي، الطيب أردوغان، مع أي مذيع "غربي" من "سياسة وضع الرجل على الرجل" ومؤخرًا لم يقتصر الأمر على الطيب أردوغان بل لحق به رئيس الوزراء "أحمد داوود أغلو" والذي لم يُعهد عليه مثل هذه اللفتات، إلا أنه مؤخرًا وفي لقاء تلفزيوني مع "كريستان أمانبور" مذيعة السي إن إن المشهورة بدا وأنه يتعمد وضع الرجل على الرجل خاصة مع هذه الصحفية التي كان لها دوراً تحريضيا ومتحيزًا في تغطية السي إن إن لأحداث "حديقة جزي" وميدان التقسيم في شهر حزيران/ يونيو 2013.

تشهد الساحة السياسية التركية من آن لآخر مقارنة بما كانت عليه حالة القادة السياسيين الأتراك قبل قدوم الإسلاميين الجدد، الطيب أردوغان ورفاقه، إذ اشتهر "بولنت أجاويد" رئيس الوزراء التركي السابق بمشهد يقف فيه أمام بل كلينتون وهو يجلس على كنبة، بينما يقف "أجاويد" رئيس الوزراء التركي آنذاك كطالب أمام معلمه، في مشهد يراه الأتراك تعمدًا في إذلال رمزًا سياسيًا من رموز جمهوريتهم وتصويراً له بأنه تابع لا يملك من أمره شيئا. وكذا مشهد للرئيس الأمريكي "جورج بوش الأب" وهو يجلس واضعًا رجلا على رجل أمام الرئيس التركي السابق "سليمان دميرال" بينما يجلس الأخير جلسة الطفل أمام أبيه مشبكًا أصابع يديه وضامًا رجليه وكتفيه.

أما بالنسبة للعثمانيين الجدد فإن هذه رمزية لغة الجسد تحتل مكانةً بالغة الأهمية عند الطيب أردوغان بشكل خاص، إذ تعمد مثلًا أن يصافح الرئيس الفرنسي الأسبق "نيكولا ساركوزي" عند زيارته لتركيا من مكان يعلو مستوى الرئيس الفرنسي. كان ذلك في معرض توعد الأخير بقانون جديد حول الأرمن، يدين فيه ما أسماه جرائم الإبادة التي قامت به الدولة العثمانية بحق الأرمن، ما اعتبره أردوغان وقتها من مظاهر الاستعلاء والكبر الفرنسي والتدخل السافر في الشأن التركي، فكان رده باهداء الرئيس الفرنسي هدية كان الغرض منها إحراجه وتذكيره بفضل تركيا على فرنسا، إذ كانت الهدية رسالة كتبها السلطان العثماني "سليمان القانوني" عام 1526 ردًا على رسالة استغاثة بعث بها "فرنسيس الأول" ملك فرنسا يطلب عون الامبراطورية العثمانية، فجاءه رد السلطان "سليمان" يطمئنه ويرسل له القوات لتحرره من الأسر.

قد يرى البعض أن هذه قشور لا تعكس حقيقة العلاقات السياسية بين الدول، إلا أن الأمر لا يحتاج لعميق تفكير وتدبر وتمحيص لندرك أن كل حركات السياسيين ورجال الدولة أمام الكاميرات لها رسائل ودلالات يفهمها المعنيون بها، ليصل مرادها إلى من توجه له، وإلا فلماذا طالب الرئيس التركي الأسبق "عبد الله غُل" تل أبيب بتقديم اعتذار صريح على تعمد إهانة السفير التركي بتصويره جالسًا على كرسي منخفض أمام المسئولين في الخارجية الإسرائيلية، وهدد وقتها الرئيس التركي غُل تل أبيب قائلًا: "إما الاعتذار أو سحب السفراء"؟!

وليس بعيدًا ذلك المشهد الذي أُهين فيه الدب الروسي "فلاديمير بوتين" حين صافحه رئيس وزراء الكيان "بنيامين نتنياهو" جالسًا على كرسيه لم يقف "مع سبق الإصرار والترصد" مرسلًا رسالة واضحة للأغبياء "الممانعين" الذين يمجدون ويتباهون بالدب الروسي المخلص بل ويدعون له على المنابر.

ذكرت وكالات الأنباء مؤخرًا أن الرئيس الإيراني "حسن روحاني" طالب هولاند بعدم وضع الخمور على طاولة مأدبة الغداء الرئاسية إلا أن الأخير رفض الطلب وأصر على وضع الخمور، فأُلغيت المأدبة، واقتصر الأمر على جلسة دبلوماسية مغلقة. هل كان "هولاند" ليجرأ أن يفعل ذلك لولا أن الرئيس الإيراني قد سقط من عينه؟ نعم، تمامًا كما أقول لك هي دلالات ومؤشرات، فالغرب لا يجامل ولا يحترم الخونة والطغاة. يستخدمهم ويوظفهم لأغراضه، لكن أبدًا لا يبدي لهم احترامًا ولا تقديرًا. واقرأ لغة وجوههم وهم يستقبلون طواغيت العرب، واستمع للغة الخطاب والترحيب وانظر إلى أولئك الصغراء الذين يقفون ناكسي رؤسهم، ذليلة نفوسهم، مكسورة أعينهم، مغبرة وجوههم، لأنهم لا يستمدون شرعية من شعوبهم ولا يمثلون تلك الشعوب فأنى لهم الاحترام والتقدير.

نعم يتعمد الساسة الأتراك الجدد أن يظهروا الندية في التعامل مع الآخر، نديةً باحترام وتقدير وفهم للغة المصالح. نعم يُقبّل الرئيس التركي يد امرأة عجوز من نساء شعبه، وينكسر أمام شيخه ومعلمه ويجلس منكمشًا احترامًا واعلاءًا لفضله، ولكنه يقف شامخًا عالي الرأس، منتصب القامة بين الزعماء وأمامهم، لأنه يمثل شعبه، ويرى أنه امتداد لحضارة قادت العالم سنوات وسنوات. استحضرني مشهد الرئيس المصري د. محمد مرسي حين رفض لقاء الرئيس الأمريكي على هامش اجتماع الأمم المتحدة في نيويورك احترامًا لثورة شعبه وتقديرًا منه لمقام ومكانة منصب رئيس جمهورية مصر العربية وثقة واعتزازًا بنفسه ومن يمثلهم. هكذا هم من تنتخبهم شعوبهم شامخي رؤوسهم معتزين بأصولهم وحضارتهم دون دنية ولا استعلاء.

عن الكاتب

د.أحمد البرعي

باحث ومحاضر في قسم الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة أيدن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس