العربي الجديد

كرر المرشح السابق للرئاسة التركية، رئيس بلدية دياربكر، صلاح الدين دميرتاش، في الأيام الماضية، دعاوته إلى مناقشة فكرة إيجاد قوة عسكرية موحّدة للأكراد. واستند دميرتاش إلى ما جرى في جبل سنجار العراقي، ولفت إلى أنه "لو كان في جبل سنجار، آبار نفطية لقامت الدنيا، ولما تُرك الإيزيديون وحدهم في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)".

ووجّه نداءً إلى "الأمة الكردية التي مُزقت أراضيها بين أربع دول، فتوحّد الأمة لا يعني أن تكون موحدة سياسياً فقط، بل علينا مناقشة فكرة إيجاد قوة عسكرية كردية موحّدة لتدافع عنها". ودعا الحكومة التركية إلى بذل المزيد من الجهود لمساعدة الأيزيديين وإعادتهم إلى أرضهم. وجاءت تصريحات دميرتاش خلال المؤتمر الصحافي الذي نظمه حزب "الشعوب الديمقراطية" في ولاية دياربكر لمناقشة قضية الأيزيديين الأكراد.

ويُعتبر كلام دميرتاش "طبيعي"، كون الأكراد يؤدّون دوراً محورياً في المواجهة مع تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، سواء عبر إدارة إقليم كردستان العراق بزعامة مسعود البرزاني، أو عبر حزب "العمال" الكردستاني الذي تدخل بشكل مباشر، كما فعل في معركة مخيم مخمور، أو عن طريق ذراعه في سورية حزب "الاتحاد الديمقراطي". لتأتي دعوات دميرتاش في سياق إعادة فتح ملف الدور المتنامي الذي بدأ -عدو الجمهورية التقليدي- بتأديته في الشرق الأوسط وتبعات ذلك على عملية التسوية مع "العمال".

وكان " حزب العمال" قد أُنشئ في عام 1987 على يد زعيمه الحالي عبد الله أوجلان ومجموعة من رفاقه، كمنظمة انفصالية يسارية مسلحة. وقام بأول عملية عسكرية في 15 أغسطس/آب من عام 1984، وشهد الحزب صعوداً وهبوطاً على مدار السنوات، قبل أن يهدأ منذ العام 2012 إثر بدء عملية التسوية مع الحكومة التركية، التي قادها جهاز الاستخبارات التركي عبر مفاوضات غير مباشرة مع أوجلان من سجنه في جزيرة إمرالي حيث يقضي حكما بالسجن المؤبد، ليصبح اليوم الحزب حركة تتمتع بوجود سياسي وعسكري وشعبية واسعة في المناطق الكردية سواء في تركيا أو الشرق الأوسط.

ويبدو في هذا الصدد أن صعود الحركة الكردية التركية ممثلة بـ"العمال" جار على مسارين في وقت واحد، ويتجلى في أشكال مختلفة في كل منها: الأول هو تركيا، والثاني في كل من العراق وسورية.

على المستوى التركي، كانت مشاركة "الحركة القومية" الكردية هامّة في الانتخابات الرئاسية التي جرت في العاشر من أغسطس/آب الماضي، عبر دميرتاش، الذي كان المرشح المشترك لها ولـ"الشعوب الديمقراطية"، وحصل على 9.8 في المائة من الأصوات بزيادة نحو 50 في المائة عما حققه حزب "السلام والديمقراطية" قبل حلّه في الانتخابات البلدية الأخيرة، في 30 مارس/آذار الماضي، حين حصل الأخير 6.44 في المائة من الأصوات. 

واعتبر الكثير من المراقبين أن الحركة لديها القدرة على تغيير المعادلات والحسابات القائمة في السياسة التركية نتيجة للانتخابات.

وعلى مستوى العراق وسورية، فقد برز "العمال" كقوة وحيدة قادرة على مواجهة ووقف توسّع حركات المتطرفين في العامين الماضيين. ففي روجافا، وهي التسمية التي يطلقها حزب "الاتحاد الديمقراطي" على المناطق ذات الأغلبية الكردية في شمال سورية، يخوض "العمال" مواجهة عنيفة مع المتطرفين منذ صيف عام 2012.

وأوصل التغلغل الأخير للمتطرفين في العراق إلى المشهد التالي وهو "الاستيلاء على الموصل ومن ثم التوجه نحو المناطق الكردية"، وهناك لم تبدِ قوات "البشمركة" الكردية العراقية أي مقاومة حقيقية، وانسحبت من الأراضي التي كانت تسيطر عليها خارج الإقليم من دون قتال، ليغدو مرة أخرى "العمال" القوة الوحيدة التي أبدت مقاومة واضحة، خصوصاً في جبل سنجار.

وبحسب الكثير من المراقبين فإن العرض القوي الذي قدمه "العمال" في كل من سورية والعراق جعله قوة لا يستهان بها في الشرق الأوسط، في حين أن النجاح الذي حققه دميرتاش مهّد الطريق لحزب "الشعوب الديمقراطية" ليصبح حزباً وطنياً تركياً مهماً، خصوصاً أنه تمّ صنع الإنجازين بالموارد نفسها.

وكانت "الحركة القومية" تتوزّع قبل الانتخابات الرئاسية بين حزبين، ولكل منهما بحسب تنظيرات زعيمهما الموحد أوجلان مهمات مختلفة، وهما "السلام والديمقراطية" الذي كان حزباً محلياً في المناطق الكردية، ويسعى إلى توحيد الصوت الكردي وتم حلّه بعد إنجاز المهمة، والثاني هو حزب "الشعوب الديمقراطية" والذي كان من المفترض أن يكون حزباً لجميع الأتراك.

وبعدها، أدار دميرتاش حملته الانتخابية على أساس الدعوة إلى "الحياة الجديدة" القائمة على أساس تعددي وتحرري تشمل جميع الأتراك، رابطاً حلّ القضية الكردية بحل أزمة الديمقراطية في الجمهورية التركية، مما مهّد طريق الحزب إلى الأتراك، ليكون انتصار دميرتاش، نتاجاً لنواة وحدت بين اليسار الكردي ونظيره التركي الذي رأى في طرح دميرتاش وسيلة لمحاربة حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، وفي الوقت نفسه التخلص من أسر أحزاب المعارضة التقليدية، التي أثبتت حتى الآن فشلها الذريع، في تقديم أي مشروع بديل.

وتمّ بذلك "تتريك" حزب "الشعوب الديمقراطية" ليضيف الحزب مليون صوت إضافي عما حققه في الانتخابات البلدية السابقة، نتيجة لأصوات العلويين واليسار التركي الذي رفض التصويت لمرشح المعارضة المشترك حينها أكمل الدين إحسان أوغلو، لتعود تصريحات دميرتاش اليوم وتفتح ملف "تتريك" الحركة الكردية مرة أخرى في ظل الظروف التي يمر بها الشرق الأوسط.

من جانب آخر فإن الشراسة التي عبر عنها صمود حزب "الاتحاد الكردستاني" في كل من رأس العين وعين العرب (كوباني) دون تلقي الدعم من الأراضي التركية أو حكومة أنقرة، على الرغم من الهجمات الشرسة التي تلقاها من قبل الجماعات المتطرفة، إضافة إلى الدور الهام التي لعبته المقاتلات الكردية في المعركة، ومن ثم تنحيته الخلافات مع الحزب "الديمقراطي" الكردستاني بقيادة البرزاني وتحالفه مع قوات "البشمركة" لصدّ هجوم المتطرفين قد حول صورة الحزب في نظر العالم، مما دفع بعض الدول إلى التفكير بشكل جدي بنزع الحزب من قائمة المنظمات الإرهابية.

كل هذه التطورات أثارت الكثير من الحذر والترقب لدى المسؤولين الأتراك، خاصة بعد توافق الغرب على البدء بتسليح الأكراد لمواجهة "داعش"، مما دفع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى نفي أي خطوة بتسليح "العمال" واقتصار الدعم العسكري على قوات الإقليم.

لم يتوقف الأمر على المسؤولين إذ دعا الكثير من المثقفين الأتراك إلى إعادة النظر في عملية التسوية برمتها والتي كان من المفترض أن تنتهي بتسليم "العمال" سلاحه، والانخراط في العمل السياسي، لكن في ظل التورط الكبير للأخير في المعارك في الشرق الأوسط أصبحت، وبحسب الكثير من المحللين الأتراك، إعادة النظر في العملية حتمية، إذ إن رمي السلاح أصبح غير ممكن، وإن على المدى المنظور.

 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!