جلال سلمي - خاص ترك برس

عند النظر إلى الموقع الجغرافي الخاص بتركيا، يُلاحظ أنه موقع جغرافي استراتيجي يضم طريق بحري حيوي عبر مضيق البوسفور والدردنيل الذي يربط بين بين بحري مرمرة والأسود ويشكل حلقة وصل رئيسية بين القارتين الأوروبية والأسيوية ويقع بين منطقة البلقان والشرق المتوسط والقوقاز.

الموقع الاستراتيجي لتركيا جذب مطامع الكثير من الدول العُظمى، خاصة المملكة البريطانية والاتحاد السوفييتي، للسيطرة عليه، وكما أن وقوعها بين البلقان والشرق المتوسط والقوقاز؛ تلك المناطق التي تتسم بالتوتر السياسي والعسكري المستمر جعلها عُرضة لمخاطر عدم الاستقرار السياسي والعسكري، الأمر الذي دفعها إلى الحصول على قوة عسكرية رادعة منذ تأسيسها كجمهورية عام 1923 وحتى يومنا هذا.

وفي هذا الإطار ولعدم قدرة تركيا على تطوير قدراتها العسكرية عبر الاكتفاء الذاتي في السنوات الأولى من تأسيسها، اتجهت نحو الانضمام للتحالفات الدولية العسكرية التي يمكن توفر لها الأمن والحماية، حيث انضم عام 1950 للحرب الكورية إلى جانب القطب الغربي لإقناعه بقدرتها العسكرية، وكمكافئة لها قبل الناتو بانضمامها كعضو أساسي عام 1952.

ضريبة توفير الناتو الأمن لتركيا، لم تكن طفيفة بل كانت باهظة حيث تصدرت تركيا مسألة المنافسة بين القطبين الشرقي والغربي، وتعرضت للكثير من تهديدات الاتحاد السوفييتي الذي هددها عام 1958 و1963 باحتلالها خلال 24 ساعة، وهذا ما شكل مصدر توتر مستمر للقادة الأتراك السياسيين والعسكريين الذين قضوا ليلهم مع نهارهم لتطوير قطاع الصناعات العسكرية، فقرروا عام 1963 تأسيس مؤسسة تركيا للأبحاث التكنولوجيا والعلمية "توبيتاك" لإجراء الأبحاث العلمية التكنولوجية في كافة المجالات وخاصة المجال العسكري.

ولم تكتفِ تركيا بذلك بل اتجهت عام 1973 إلى تأسيس شركة الصناعات الجوية والفضائية "توساش" بهدف تخفيف تبعية تركيا للدول الأخرى في مجال الصناعات الدفاعية الجوية، وقد قامت وزارة الصناعة والتكنولوجيا التركية بخصخصة توساش عام 1984 كشركة أسهم تشاركية، لتنشيط عملية إنتاجها وابتكارها وإدارتها بشكل أفضل من قبل القطاع الخاص الذي يعتبر أكثر عقلانية وفعالية من إدارة القطاعات الحكومية العامة، وقد أثبتت توساش جدارتها من خلال تصنيعها للعديد من الطائرات المدنية والعسكرية وتزويدها لتركيا بقمرين فضائيين مصنوعين بأيدي تركية خالصة.

هذا وبعد تعرض تركيا لحصار اقتصادي عسكري من قبل الغرب عام 1975، بذريعة التدخل العسكري الذي قامت به في جزيرة قبرص، وبعد اكتشاف القيادة العسكرية عمليات تجسس متتالية من قبل الاستخبارات الغربية لجيشها، اتجهت القيادة السياسية والعسكرية عام 1975 إلى تأسيس شركة تتمكن من توفير أجهزة تواصل عسكرية ذات شيفرة محلية خاصة الجيش التركي لحمايته من عمليات التجسس، هذا وقد أطلقت الحكومة التركية على هذه الشركة أو المؤسسة اسم مركز الصناعة العسكرية الإلكترونية التركية "أسيل سان"، وتعتبر شركة أسيل سان أيضا ً شركة تساهمية تابعة لبورصة إسطنبول، وقد تمكنت من تزويد تركيا العديد من الأسلحة النوعية منذ تأسيسها وحتى الآن.

سجلت الصناعات الدفاعية التركية تطورا ً ملحوظا ً في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، حيث عمدت حكومة "تورغوت أوزال" الليبرالية إلى خصخصة الشركات العسكرية وفتح سوقها الخارجي على العالم وتوفير فرصة استثمار للسيولة الأجنبية وغيرها الكثير من الإجراءات الاقتصادية التي ساهمت بشكل كبير في تطوير ذلك القطاع.

منذ تلك الفترة وحتى يومنا هذا وعلى الرغم من المضايقات التي تفرضها الدول الغربية عليه وعلى الرغم من بذل الغرب للكثير من عمليات التقويض للصناعات العسكرية التركية مثل عمليات اغتيال بعض المهندسين ومحاولات التجسس على خطط تطوير الصناعات العسكرية وإجهاضها، إلا أن قطاع الصناعات الدفاعية العسكرية التركي تمكن من توفير ما نسبته 40 % من الاكتفاء الذاتي، ويُتوقع أن تصل نسبة الاكتفاء الذاتي لقطاع الصناعات العسكرية في تركيا إلى 85%، وإذ استمرت الحكومة والشركات العسكرية التركية في السير على نفس وتيرة التطور التي يسيرون عليها، فإن تحقيقهم لنسبة أكبر من ذلك أمرا ً ممكنا ً وليس صعبا ً، حسب ما يبيّنه مركز الأبحاث الأسيوية التركي في دراسته الحاملة لعنوان "المستقبل الاستراتيجي للصناعات الدفاعية التركية".

هذا وقد ساهمت نسبة الاكتفاء الذاتي التي تم تسطيرها عبر السنوات الماضية في جعل الجيش التركي حائز على المرتبة العاشرة حسب إحصاءات عام 2015.

عن الكاتب

جلال سلمي

صحفي وباحث سياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس