محمد تركي الربيعو - القدس العربي

من المعروف أن البلاد العربية مرت بظروف خاصة بعد انضوائها تحت الحكم العثماني وتغير نمط وأسلوب الأداء فيها، فقد انصهرت معظم كياناتها في بوتقة الدولة العثمانية التي تمكنت بفضل السياسة التي اتبعتها من بسط إدارتها لمدة تتراوح بين ثلاثة إلى أربعة قرون متواصلة. 

وشهدت البلاد العربية خلال هذه المدة أحداثا وتطورات مختلفة في كل مناحي الحياة السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والفكرية، وهذا ما حاول بعض المؤرخين العرب (عدنان بخيت، وعبد الجليل التميمي، ورافق عبد الكريم ومحمد ارناؤوط) وتلامذتهم (مهند مبيضين ورضا بن رجب) تداركه ومحاولة إعادة كتابته من جديد، لا بل وتأسيس مدارس عربية عثمانية جادة تنبع أهميتها من اعتمادها على المصادر والوثائق الجديدة، بدءا بالسجلات الشرعية وسجلات الطابو، مرورا بالفتاوى ورحلات الغربيين.

مع ذلك، فإن معظم ما تم الكشف عنه من الأرشيف العثماني والمكتوب باللغة العربية، لا يشكل إلا جزءا يسيرا من حجم هذا الأرشيف، خاصة المدون باللغة العثمانية منه، رغم وجود سيل هائل من المعلومات المتعلقة بالبلاد العربية في هذه الوثائق والمصادر. والحقيقة أن سبب هذا الغياب عن هذه الوثائق لا يعزى إلى اتخاذ الباحثين العرب موقفا سلبيا منها أو مما يرد في داخلها، لأن الباحثين العرب، أو قسما منهم، يستعينون بمراجع أجنبية اتخذت من الوثائق العثمانية أساسا لها، بل يرجع (هذا الغياب) بحسب المؤرخ العراقي المتخصص في العثمانيات فاضل بيات إلى جملة أمور منها على سبيل المثال لا الحصر: جهلهم باللغة العثمانية، وعدم تمكنهم من التعامل مع الوثيقة العثمانية لصعوبة قراءتها وفهمها، بالإضافة لذلك تعذر اقتناء القسم الأعظم منهم للوثيقة العثمانية لأسباب تتعلق بالإمكانات المادية للباحثين، وعدم اهتمام المؤسسات البحثية في العالم العربي، خاصة التابعة للجامعات العربية بتيسير استخدام الوثائق العثمانية للباحثين العرب.

ومن هنا، فقد سعى مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية (أرسيكا) منذ إنشائه في مدينة إسطنبول 1980، إلى المساهمة في تعريف الباحثين العرب بما يتضمنه الأرشيف العثماني في حاضرة الدولة العثمانية (إسطنبول اليوم) من سجلات ودفاتر ووثائق حول تاريخ الدولة والبلدان التي دخلت تحت رايتها في آسيا وأفريقيا وأوروبا، من خلال محورين: الأول يقوم على إجراء دراسات عامة تتعلق بتاريخ الولايات العربية في العهد العثماني بالاستعانة بمعطيات هذا الأرشيف، والثاني يعمل على نشر ما يمكن نشره من الوثائق المتعلقة بالموضوع نفسه ووضعه في متناول الباحثين.

وفيما يتعلق بالمحور الأول فقد رأى المركز ضرورة توفير مرجع شامل يتناول مختلف حيوات الدولة العثمانية بأسلوب علمي وجديد، بحيث يكون بعيدا عن الرؤى الدارجة التي غالبا ما ساهمت في إساءة فهم وتفسير التاريخ العثماني، انطلاقا من دوافع أيديولوجية وسياسية. فكلف نخبة من خيرة المتخصصين للقيام بهذا العمل، على أن يقوموا بحفرياتهم بشكل أساسي داخل أرشيف الوثائق العثمانية. وقد تم إنجاز العمل بإشراف مدير عام المركز آنذاك أكمل الدين إحسان أوغلو، وصدر تحت اسم «الدولة العثمانية تاريخ وحضارة». كما أصدر المركز في الإطار نفسه كتاب «العلم والمعرفة في العالم العثماني» الذي تضمن البحوث التي ألقيت باللغة العربية في المؤتمر الدولي الذي عقده المركز في إسطنبول سنة 2000 حول التربية والتعليم في الدولة العثمانية.

أما على مستوى المحور الثاني، فقد سعى المركز إلى نشر مجموعة من الدفاتر أو السجلات والوثائق التي تهم الباحثين بالدرجة الأولى، بعد إعادة ترجمتها من العثمانية إلى العربية منها: كتاب «البنية الاقتصادية والاجتماعية لمدينة دمشق في القرن السابع عشر» الذي أعده خليل ساحللي أوغلو اعتمادا على دفتر العوارض، وكتاب «السودان في العهد العثماني من خلال وثائق الأرشيف العثماني»، وكتاب «بغداد من خلال وثائق الأرشيف العثماني»، وكتاب «الأوقاف الإسلامية في القدس الشريف» إعداد محمد هاشم غوشة في مجلدين (إسطنبول 2009).

وضمن السياق نفسه، يمكن أن نشير هنا إلى العمل الكبير الذي يعكف عليه فاضل بيات داخل منظمة أرسيكا منذ سنوات (وصدرت منه أربعة مجلدات لحد الآن) تحت عنوان «البلاد العربية في الوثائق العثمانية»، حيث قام بيات في هذا المشروع بإعادة ترجمة وتحليل ما يقرب من 500 وثيقة أو أكثر من الوثائق المكتوبة باللغة العثمانية، تعود في أغلبها إلى أرشيف طوب قابي سراي (الباب العالي)، ومجموعة منشآت السلاطين لفريدون بك، وكذلك دفاتر المهمات المحفوظة في مركز الأرشيف العثماني التي تدخل ضمن نطاق «الأحكام السلطانية» أي الأوامر السلطانية. وهي حافلة بمعلومات عن أحوال الدولة السياسية والاقتصادية والعسكرية والدينية والثقافية والاجتماعية. وما يزيد من أهمية هذه الأحكام عرضها واقع حال المسألة التي صدر الحكم بشأنها، الأمر الذي لا نجده في أي مصدر آخر.

نجد في المجلد الأول من مشروع بيات أن العلاقة بين البدو والعثمانيين لم تكن علاقة متوترة دائما، كما سعى العديد من الدراسات إلى تأكيده انطلاقا من أن البنية القبلية لا تتوافق مع فكرة الدولة. وفي الواقع فإن العديد من المصادر التي يذكرها بيات تؤكد أن العلاقة بين الطرفين لم تكن قائمة على ثنائيات البدو/الحضر، وإنما جاءت كنتيجة ظروف تاريخية مختلفة.

كما تظهر بعض الوثائق أن الدولة العثمانية توصلت إلى قناعة بأن القوة العسكرية ليست كافية وحدها لإجبار العشائر البدوية المتمردة على الخضوع لأوامرها، وخير دليل على ذلك ما استنتجته الدولة «أن البدو طائفة غير متحضرة، من الممكن كسبهم لو تمت مداراتهم، وبعد كسبهم يسهل تأديبهم». وينبغي ألا يفهم من هذا – بحسب بيات- أن الدولة كانت تلجأ إلى أسلوب الخديعة: تكسبهم وبعد كسبهم تقوم بالتنكيل بهم، فلم يرد في الوثائق أن الدولة قامت بتأديبهم بعد كسبهم، خاصة بعد إعلانهم الولاء والخضوع. والمعروف مثلا أن عشيرة أبو ريشة تغير موقف الدولة في ما بعد منها، إذ أصبحت من أكثر العشائر إخلاصا للدولة العثمانية، فقلدت الدولة زعماءها إدارة ألوية في منطقة أعالي الفرات، بدءا من لواء عانة، صعودا إلى جنوب الأناضول. وفضلا عن كل ذلك نعثر في بعض الوثائق على كشف بأسماء شيوخ العشائر، كما نجدها مثلا في وثيقة تعود لسنة 1559، حيث يذكر فيها بشكل تفصيلي قائمة متكاملة من أسماء زعماء العشائر القائمة في ولاية الشام في تلك الفترة، التي لا يمكن الحصول عليها بشكل دقيق من أي مصدر آخر.

وفي ما يتعلق بالحياة الاجتماعية والعلاقة بين السكان والولاة داخل بعض الولايات العثمانية، يظهر عدد من الوثائق أن العلاقة كانت تسوء في مرات عديدة، الأمر الذي يدفع الديوان السلطاني إلى التدخل وعزل بعض الولاة. ففي وثيقة تعود لسنة 1552، نعثر على قرار من الباب العالي بمواجهة أبناء سيف الذين كانوا مكلفين من قبل الدولة بجمع الرسوم والضرائب من الرعايا في لواء حمص. وصدر هذا القرار بالأساس بعد أن اعتزم فلاحو حمص تقديم شكوى وترك ديارهم في حالة عدم الاستجابة بسبب تعرضهم إلى التجاوز من قبل أبناء سيف بغير حق. وهذا الأمر إن تحقق ستكون له تداعيات خطيرة على اقتصاد اللواء. وكان على مسؤولي الدولة في اللواء التدخل لتدارك الأمر قبل استفحاله. وبالفعل تدخل أمير حمص في الأمر وتمكن من إقناع الفلاحين بالبقاء واعدا إياهم استصدار حكم في شكواهم وإعادة استرداد ما ترتب في ذمة أبناء سيف.

وهناك وثيقة أخرى تعود لسنة 1559 يتم فيها الإبلاغ عن انقسام أهالي القرى التابعة للواء دمشق ومحاربتهم بعضهم ببعض، وفقدان الأمن من جراء ذلك، وقيام أمراء السناجق بتأديبهم. يسلط هذا الحكم هو الآخر الضوء على الأوضاع الاجتماعية التي كانت قائمة في بلاد الشام في مطلع العهد العثماني، ولعل المقصود من انقسام القرى إلى فرق هو انقسامهم إلى فرقتي القيسية واليمانية. والسمة البارزة لهاتين الفرقتين محاربة بعضهما البعض واللجوء إلى أعمال النهب والسلب والقتل وعدم إطاعة الشرع والقانون وعدم الانصياع إلى الحكام. ووفقا لبيات قد يتصور البعض أن هذا الأمر كان يصب في خدمة العثمانيين باعتبار أن هاتين الفرقتين كانتا تستهدفان بعضهما بعضا وليس الدولة التي كانت تغذى الصراع بينهما ليخلو لها الجو، إلا أن هذا الاعتقاد يتجاهل أن فقدان الأمن والنظام في البلاد كانا يؤديان إلى الفوضى وترك الأراضي من دون زراعتها، الأمر الذي يؤدي إلى نقص الحبوب التي تسعى الدولة إلى توفيرها لرعاياها وجنودها، وهو ما سعت الدولة لتجنبه.

في جانب آخر، نجد أن الدولة قد أولت اهتماما خاصا بموضوع الأوقاف، حيث تشير وثيقة مكتوبة بتاريخ 1552 إلى نشوب حريق في العمارة العامرة في الصالحية في دمشق، والأمر بإعادة بنائها، وتغطية نفقات البناء من قبل الخزينة في حال عدم كفاية زوائد الوقف لها، حيث أقيمت العمارة العامرة أو دار الطعام في دمشق من قبل السلطان سليمان القانوني، بهدف تقديم الطعام مجانا لطلاب العلم وأبناء السبيل والمحتاجين. وكانت تقوم بنشاطها حتى أكتوبر/تشرين الأول 1552 حيث اندلعت النيران في فرنها ومطبخها وامتدت إلى دكاكين الأوقاف بالقرب منها. ويبدو أن الأوقاف المرصودة للعمارة العامرة لم تكن تكفي لتغطية نفقات إعادة بنائها، فأبلغ بكلر بكي (والي) الشام الديوان الهمايوني (السلطاني) لاستحصال الموافقة على صرف مبلغ ألف ومئتي ليرة ذهبية من خزينة الشام وبالفعل صدرت الموافقة، الأمر الذي يدل على حرص الدولة على قيام المؤسسات الخيرية بأنشطتها بدون توقف.

وما يثير الاهتمام أيضا، أن بعض الوثائق تكشف عن الأنثروبولوجيا الطبية لتلك الفترة، ففي وثيقة تعود لسنة 1559، نعثر على طلب بإرسال كحال وحلاق جراح من مصر إلى إسطنبول لاستخدامهما هناك، ويبدو من هذا الحكم مدى ما وصل اليه الأطباء الشعبيين في مصر حتى غدت العاصمة العثمانية تستعين بهم لمعالجة حالات مرضية مستعصية. ففي هذا الحكم يطلب الديوان الهمايوني (السلطاني) من بكلر بكي (الوالي) إرسال الكحال أحمد بن عبد الله والحلاق الجراح علي بك إلى إسطنبول بأي طريق كان وعدم قبول أي عذر منهما.

كما نجد في حكم آخر مدى إيلاء الدولة العثمانية اهتماما بالأخلاق وعدم التجاوز على حقوق الآخرين، وهو يتعلق بالممارسات غير الأخلاقية لبعض طائفة اللوند، أي جنود البحرية. وطبقا لما ورد في حكم لسنة 1559 فإن هؤلاء الجنود كانوا يستغلون وضعهم ويتجاوزون على حرمات الأهالي، إذ كانوا يستخدمون بيوت الحمامين المطلة على حمامات النساء في القاهرة لاختلاس النظر إليهن عندما يكن في المرافق التي ينزعن فيها ملابسهن. ولم يكن بمقدور القاضي منعهم، ولهذا ابلغ الديوان الهمايوني عما يقوم به هؤلاء الجنود طالبا اتخاذ ما يلزم لردعهم. كما أمر بغلق كل موضع يحتمل أن يستخدم لاختلاس النظر منه إلى جامكانات الحمامات بغض النظر عن كون هذا الموضع في منازل الحمامين أو غيرهم.

كما نجد أن الارتياب من بيوت القهوة والطقوس المصاحبة لشربها آنذاك قد بقي مثار حفيظة للدولة ولدى بعض العلماء. 

ففي المجلد الثالث نعثر مثلا على أكثر من إصدار من الديوان السلطاني يعود لسنة 1565، موجه إلى حلب والشام يقضي بإغلاق المقاهي، وقد برر ذلك بتأثيرها المباشر على الأهالي الذين كانوا قبل فتح المقاهي مواظبين على الطاعة والعبادة في الأوقات الخاصة، وتحول هذه المقاهي إلى مجمع للمتسكعين والفسق والفجور.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس