عبد الإله فهد - خاص ترك برس

ساعات شغلت العالم، ورغم أنها لم تزد في عددها عن أصابع اليدين، إلا أنها كشفت في وقت قياسي، من خلال ما قاله البعض، وما تأخر البعض الآخر في قوله، عن دواخلهم وما تخفي صدورهم، وعن التفاوت في المواقف ما بين مؤيد ومعارض، كل ذلك جاء على مستوى خارجي، أما على مستوى الشعب التركي، فلم تستطع تلك الساعات ورغم وطأتها ورغم عامل الصدمة فيها أن تزحزح الشعب التركي، وأن تفرزه إلى "معنا، وعلينا".

لم تتمكن تلك الساعات من أن تؤرجح بوصلة الشعب التركي أو تتلاعب بها، بل كانت ساعات للتوحد والاصطفاف، ساعات لشحذ الهمم والالتزام بالمبادئ، ساعات للالتحام ما بين المنطلقات والأحلام، ساعات للتماهي مع الوطن الذي لا يعلو عليه شيء.

في زحمة المستجدات، وتعاظم الخطوب، وتوالي الأحداث الجديرة بالتأمل والتحليل، قد يجب البعض أنفسهم في عجز إدراك ما يبصرون، وعن فهم ما يسمعون، عجز عن تقدير الموقف وتأويل أبعاده، فلا يجدون بديلاً عن التوجه إلى الله، طلباً للطمأنينة والإرشاد، يلهجون بالدعاء أن يهيئ الله لهذه الأمة من أمرها رشداً، أن يعم الأمن والأمان على هذه البقعة من الأرض، وأن يزيل الغمة عن شعوبها التي عانت الكثير في ظل الفشل الداخلي المستمر والتآمر الخارجي الماكر، والمحاولات المستمرة للسيطرة عليها بوسائل تحرمها الإرادة والقدرة.

قد يسهل على من يراقب الحدث بعد وقوعه، أن يسترسل في إطلاق الحكم والمواعظ وأن يستسهل ابتكار التحليلات والقراءات، أن يصف ما جرى بأنه سحابة صيف، أو زوبعة في فنجان، أما أن يتخذ المواقف الصلبة المناسبة في وقتها، حين تكون الغمامة قد لفت المكان، وحين يتسرب الشك إلى القلوب، وتبلغ الظنون مداها، فتلك قصة أخرى لا يقدر عليها إلا من يتمتع بنصيب وافر من الحكمة والشجاعة والخبرة.

اليوم تفتح تركيا فصلًا جديدًا مع فصول تاريخها وتاريخ العالم، فصلًا لا يستمد قيمته من الماضي بقدر ما يستمده من المستقبل، إنها تكتب سطورًا جديدة، لا تتراصف فوقها قصص من التاريخ، ولا تتفاخر صفحاتها بإنجازات الأجداد؛ بل تخط عهداً جديداً يجدر بالماضي أن يفخر به، وتضع ركائز وأسسًا قادرة على إشادة واقع جديد للمنطقة والعالم. تفتح تركيا اليوم باباً من الأمل يكاد يستوعب كل خبرات الشعوب، عبر تجربة جديرة بالتأريخ والدراسة، تجربة فريدة عظيمة بكل المقاييس والمعايير.

لكن تركيا لا تدخل ميدانًا جديدًا بشكل كلي، إنها ليست في واقع الحال غريبة على عالم الريادة والقيادة، فهذا الشعب هو ذاته الشعب الذي قاد نصف العالم طوال خمسة قرون، نشر خلالها الأمن والاستقرار، وأرخى العدل والإزدهار.

إنه يوم عظيم بكل صدق وتجرد، ورغم أن الصراعات والظلم الذي يقف من ورائه تمتد لأكثر من مئة عام، إلا أن العدالة انتصرت، وتمكن الشعب من حماية مؤسساته الديمقراطية، من حماية مستقبله، ومن تقديم نموذج مشرف ربما يساهم في تعزيز الديمقراطية على مستوى العالم.

لم ينقذ الشعب التركي الخيار الديمقراطي في تركيا فقط، بل أنقذه على مستوى المنطقة، كما حال بشجاعته دون فقدان الثقة بشكل نهائي بالخيار الديمقراطي لدى شعوبنا، مع كل ما يمكن أن يخلفه ذلك من انحدار خطير وكامل نحو الفوضى والعدمية.

لقد أثبتت الشعب التركي أنه جدير بوطنه، وأن مصير هذا الوطن ليس موضوعًا للمساومة والأخذ والرد والتلاعب، كذلك أيضاً أثبتت الأحزاب والتيارات والتكتلات التركية على اختلافها قدرتها على التمييز بين الصراعات والتناقضات المركزية والتناقضات الثانوية، فتجردت في اللحظة المناسبة من مركزيتها، ووضعت ثقلها كله في خدمة الوطن.

إن الجيش الذي يمده المواطنون بقوتهم وقوت أبنائهم، مكرس من أجل حماية الوطن، كما أن الطائرة والدبابات تسلح وتعد لحماية الشعب لا لقتله، وكذلك الإعلام ووسائله، فهي لنشر الحقيقة وتوضيح الوقائع حتى في أحلك الظروف، إنها وسيلة لتعزيز إرادة الشعب وشحذه بالصلابة والصمود في اللحظات الحرجة.

إن الأخلاص والعدل والحرية هي أسس الملك، والقائد الحق هو الذي يقف معه الشعب بصدق وإخلاص، هو الذي يكون منهم وبينهم في بيوتهم وساحاتهم ومكاتبهم، في مساجدهم وكنائسهم، في جامعاتهم ومدارسهم، هو الذي ينال ثقتهم، هو الذي يثبت لهم أنه على الحق، وأن الوقوف معه واجب شرعي ووطني وأخلاقي.

الوطن فوق الجميع والجميع في خدمة الوطن، فالحق والحق يقال لقد أثبت الشعب التركي أنه مدرسة ومنهاج يقتدى به وأنه شعب عظيم قل نظيره في هذا الزمن.

عن الكاتب

عبد الإله فهد

الأمين العام للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مواضيع أخرى للكاتب

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس