د. الزبير خلف الله - خاص ترك برس

تركيا وقدرها مع الانقلابات

معادلة صعبة أن تتعرض تركيا المعاصرة الى محاولة انقلابية يخطط لها من الخارج ويتم تنفيذها بأياد من الداخل. أقول معادلة صعبة لأن تعدد الجبهات يجعل السفينة تفقد بوصلتها بين هذه الأمواج العاتية من المؤامرات الداخلية والخارجية التي تتعرض لها تركيا منذ الانقلاب على مندريس وإعدامه  إلى يومنا هذا.

 قصة تركيا مع الانقلابات قصة طويلة بدأت مع بداية التجربة الديمقراطية التي قادها مندريس وأعدمه العسكر سنة 1963 في انقلاب خطط له الغرب في الخارج ونفذه أذياله من أعداء الحرية في الداخل لأنه بدأ يقرب تركيا من جديد إلى المحيط العربي والاسلامي، فكان الانقلاب محاولة للقضاء على هذه الخطوات الاصلاحية التي قادها مندريس.

لقد كان الانقلاب على مندريس وإعدامه انقلابا على تجربة سياسية بدأت تنضج وتنمو أكثر. كما إن انقلاب سنة 1980جاء مباشرة عقب قيام الثورة الايرانية التي كان ينظر إليها الغرب على أنها خطر جديد في المنطقة، فخطط لانقلاب دموي قاده العسكر، وقتل فيه عددا كبيرا من المواطنين، وأدخلت تركيا مباشرة تحت الأوامر الأمريكية للوقوف ضد الخطر الايراني في ذلك الوقت.

 لم تتوقف الانقلابات في تركيا، وباتت المؤامرات تحاك من الداخل والخارج، وكان تاريخ 28 شباط/ فبراير 1997 موعدا جديدا مع انقلاب جديد يتدخل فيه الجيش، ويجبر رئيس الوزراء في ذلك الزمن الزعيم الاسلامي المرحوم نجم الدين أربكان على الاستقالة، واستجاب لذلك رغبة منه أن لا تدخل تركيا في دوامة انقلاب عسكري مباشر يموت فيه الالاف مثلما حصل في الانقلابات السابقة.

كانت كل الانقلابات السابقة ناجحة لأن تركيا في تلك الفترة كانت تفتقد الى مشروع سياسي حقيقي يستطيع أن يحول تركيا الى قوة فاعلة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ، لقد كانت كل الحكومات في تلك الفترة تعيش حالة تصارع وتآكل مما سهل على الجيش أن يتدخل في عدة مناسبات، ويفرض رؤيته للحكم، طبعا بتدخل غربي واستخباراتي يريد أن يحول السياسة في تركيا نحو الوجهة التي يريدها في المنطقة.

باختصار لم تكن العملية الانقلابية الأخيرة الفاشلة إلا حلقة من سلسلة حلقات طويلة دفعت فيها تركيا الثمن باهضا جراء رغبة عدد من أبنائها المخلصين في النهوض بتركيا مجددا، وإعادتها الى فضائها الشرقي والاسلامي. إنها تراكمات من المؤامرات الداخلية والخارجية ظلت تعصف بتركيا وتزلزل أمنها واستقرارها وتجربتها وتحاول أن ترجعها إلى مربع الصفر كلما فكرت أو خطت خطوات نحو النهوض والتقدم إلى الأمام .

محاولات انقلابية فاشلة في عهد حزب العدالة والتنمية

لم تتوقف المحاولات الانقلابية في تركيا مع مجيء حزب العدالة والتنمية الى الحكم سنة 2002 الذي نجح بقيادة رجب طيب أردوغان أن يقلل ولو جزئيا من تدخل المؤسسة العسكرية في الحكم مستثمرا قوانين الاتحاد الاوروبي الداعية الى القيام باصلاحات سياسية تبعد الجيش التركي عن التدخل في الشأن السياسي، غير أن الوضع كان مرشحا إلى حدوث انقلاب في أي لحظة.

لقد كان شهر أيار/ مايو سنة 2013 مسرحا لأحداث عنف شديدة في ميدان تقسيم بين الشرطة التركية والمعارضة التركية التي نزلت للشوارع والتصادم مع الدولة احتجاجا على قرار حزب العدالة والتنمية باعادة انشاء الثكنة العسكرية العثمانية القديمة في حديقة غيزي باركي والتي كان قد تم ازالتها في عهد الاتحاد الترقي بعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني في بدايات القرن الماضي . وقد كانت أحداث غيزي باركي محاولة انقلابية بتحريك من القوى الدولية مستغلة حالة التوتر بين الحكومة والمعارضة، وأرادت أن تسقط بها الحكومة التي نجحت في افشال هذا المخطط الانقلابي المدني.

لم يمض وقت طويل على أحداث غيزي باركي في شهر أيار 2013 حتى نجحت الحكومة في إحباط محاولة انقلابية أخرى تورطت فيها جماعة فتح الله غولن التي حاولت أن تقوم بانقلاب عن طريق القضاء وعن طريق عناصرها في الشرطة، لكن الحكومة نجحت مجددا يوم 17 كانون الثاني/ ديسمبر 2013 في إحباط هذه المحاولة الانقلابية التي كانت جد محكمة في استخدامها للجهاز القضائي في الدولة التركية للانقضاض على الوزراء والولاة وإدخالهم السجن بما فيهم أردوغان بتهمة خيانة الدولة، غير أن هذه العملية باءت بالفشل من جديد.

لقد أدرك أردوغان وحزب العدالة والتنمية خطورة جماعة فتح الله غولن التي تغلغلت في كامل مفاصل الدولة وفي كل قطاعاتها، فكانت أحداث غيزي بارك وأحداث 17 كانون الثاني 2013 فرصة كبيرة جدا لأردوغان أن يدخل في معركة مع هذه الجماعة التي انكشفت نيتها في تصفية أردوغان وحزبه والانقضاض على الحكم بطريقة انقلابية غير شرعية مستخدمة أذرعتها القضائية والأمنية ضد الدولة والشرعية.

 وقد انطلقت الحكومة في تصفية هذه الجماعة وغلق كل مقراتها ومؤسساتها في محاولة لإضعافها مما زاد في التوتر أكثر بين هذه الجماعة وحزب العدالة والتنمية، وخصوصا رئيس الجمهورية الذي كان مستهدفا في كل لحظة بالقتل من عدة أطراف خصوصا جماعة فتح غولن التي نجحت في التغلغل داخل المؤسسة العسكرية وسيطرتها على عدة مراتب عسكرية عليا في المؤسسة العسكرية.

ورغم نجاح أردوغان وحزب العدالة والتنمية في ترويض المؤسسة العسكرية وإبعادها قليلا عن التدخل في الحكم الا أن هذه المؤسسة لم تخضع بشكل تام، وظلت تحتاج الى إعادة هيكلتها من جديد تصحح عقيدتها الوطنية وتبعدها عن أي توظيف سياسي من قبل الأحزاب أو الجماعات.

استمرت الجهود لاصلاح المؤسسة العسكرية بيد أن مساحة التحرك لدى أردوغان وحزب العدالة والتنمية لم تكن كافية وقادرة على إحداث تغييرات جذرية، الأمر الذي جعل التجربة السياسية في تركيا مهددة في أي لحظة بانقلاب عسكري خصوصا وأن مرحلة حزب العدالة والتنمية عرفت فيها تركيا تطورا كبيرا، وباتت تلعب دورا اقليميا ودوليا بارزا أزعج العديد من الدول في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني والدول الأوروبية.

لقد كانت هناك علامات تؤكد بأن هناك انقلابا ما يدبر في مطابخ خفية لا ندري زمن وقوعه وشكل وقوعه، خاصة إذا نظرنا إلى النجاحات الكبيرة التي حققتها تركيا على المستوى الاقتصادي والسياسي وعلى مستوى السياسة الخارجية المؤيدة لقضايا الربيع العربي والوقوف الى جانب الشعب السوري في ثورته ضد النظام القمعي في سوريا ورفضه للانقلاب الدموي الذي حدث في مصر وقتل الاف الأبرياء من المصريين العزل.

الأسباب التي أدت إلى انقلاب 15 تموز

هناك أسباب داخلية و أسباب خارجية ساهمت مجتمعة مع بعضها في وقوع هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة وهي كالتالي:

أ- الأسباب الداخلية

1- من أهم الأسباب الخلاف الدائر بين حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان وجماعة الخدمة وتوتر العلاقة بين الحكومة التركية وبين جماعة فتح الله غولن التي نجحت الحكومة في توجيه عدة ضربات لها في القطاعات المتواجدة فيها وعزم الحكومة على محاربتها بصورة شاملة ومحاولة اجتثاثها وتصفيتها.

2- سعي الحكومة إلى تغيير النظام السياسي في تركيا من نظام برلماني إلى نظام رئاسي حيث شهدت الساحة السياسة توترا بين الحكومة وبين الأحزاب السياسية الرافضة للنظام الرئاسي وتخوفها من أن يتحول النظام الى نظام ديكتاتوري ويؤثر على المسار الديمقراطي في تركيا رغم أن الحكومة بينت بشكل واضح الأهداف من التوجه الى النظام الرئاسي الذي يستطيع أن يحافظ على الوحدة الوطنية خصوصا في ظل التهديدات الخارجية المحدقة بتركيا.

3- النجاحات الكبيرة التي حققها حزب العدالة والتنمية في كل المحطات الانتخابية لاسيما في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي شهدت توحدا لأحزاب المعارضة بمافيها جماعة فتح الله غولن وشكلت جبهة واسعة لاضعاف حزب العدالة والتنمية الذي استطاع أن يدخل الانتخابات المعادة، ويحقق انتصارا كبيرا أحدث خيبة كبيرة لدى المعارضة ووجدت نفسها عاجزة على ايقاف تمدده.

4- ملف الحرب على الارهاب المتمثل في حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة الاسلامية ومافيا المخدرات وعصابات تجار السلاح الذين دخلت ضدهم الحكومة في حرب شاملة ومتواصلة مما جعل الجماعات الارهابية تقوم بعمليات ارهابية انتقامية في تركيا أودت بالعديد من الضحايا وكذلك استمرار الجيش التركي في المنطقة الشرقية يحارب حزب العمال الكردستاني.

5- ملف اللاجئين السوريين الذين وصل عددهم قرابة ثلاثة ملايين والامتيازات التي قدمتها الدولة لهم مما أثار حفيظة أحزاب المعارضة التي باتت تطالب الحكومة بتعديل سياستها تجاه ملف اللاجئين، وغلق الحدود أمامهم ومنعهم من الدخول إلى درجة أن هناك من المعارضين من نادى بطرد كل السوريين. لقد كان ملف اللاجئين سببا في توتر العلاقة بين الحكومة وأحزاب المعارضة.

ب- الأسباب الخارجية

1- لعل أهم سبب خارجي ساهم في وقوع الانقلاب هي النجاحات الكبرى التي حققتها تركيا على المستوى الاقتصادي وعلى المستوى السياسي وحجم المشاريع العملاقة التي أنجزتها تركيا مما حولها إلى منافس كبير على الساحة الدولية، وأصبحت تركيا تلعب دورا بالغ الأهمية على مستوى ميزان القوى الإقليمية والدولية، الأمر الذي أزعج عدة قوى إقليمية وأوروبية وغربية منها.

2- السياسة الخارجية التركية المرنة القادرة على المناورة وتحويل الأزمات الموجودة إلى لصالحها، وانفتاحها عن المنطقة العربية ووقوفها إلى جانب الربيع العربي ودعمها له ، وكذلك قدرتها على تشكيل محاور استراتيجية مع قطر والسعودية، وكذلك انتقالها إلى سياسة تقليل الأعداء مثل إعادة العلاقات مع اسرائيل والتقارب مع روسيا الامر الذي أزعج الولايات المتحدة الأمريكية.

3- اختلاف وجهات النظر بين تركيا والولايات المتحدة حول الملف السوري، وكذلك اختلافها مع روسيا والنظام المصري وإيران، ورفض تركيا إقامة دولة كردية على شمال سوريا، وسعيها لإقامة مناطق عازلة داخل الأراضي السورية، وربما نية تركيا في الدخول الى الأراضي السورية من أجل تعطيل أي محاولة لتشكيل دولة كردية.

4- الخلاف الروسي التركي وتوتر العلاقات بينهما بعد إسقاط المروحية الروسية من قبل الأتراك واعتراض تركيا على احتلال روسيا لسوريا هو الذي عمق الهوة بين البلدين.

5- نجاح تركيا في فك العزلة الدولية التي وقعت فيها ونجاحها في إعادة العلاقات مع اسرائيل، وكذلك ملامح التقارب الروسي التركي وإمكانية تشكيل محور استراتيجي جديد ضد الولايات المتحدة الأمريكية التي انزعجت بشكل كبير من هذا التقارب، وتأكدت من أن تركيا لم تعد الحليف الاستراتيجي الحقيقي الذي تثق به في المستقبل.

ومن خلال التحقيقات والمعلومات المتداولة على شبكات التواصل فقد كان هناك تنسيق بين الولايات المتحدة في قاعدة انجيرليك وبعض المشرفين على الانقلاب من جنرالات الجيش، كما أن تصريحات رئيس البنتاغون الذي صرح أن الولايات المتحدة كان لديها علم بحدوث الانقلاب، وكذلك موقف السفارة الأمريكية التي اعتبرت أن ما يجري في تركيا ليس انقلابا وإنما هو انتفاضة، وهذا يعكس أن هذه الجهات الداخلية لم تكن تخطط لوحدها دون تنسيق مع القوى الخارجية خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية وقوى إقليمية ودولية أخرى. 

كل هذه الأسباب الداخلية والخارجية مجتمعة هي التي ستشكل أرضية مشتركة يستثمرها أعداء تركيا في الداخل والخارج من أجل الانقضاض على نظام الحكم، وإزاحة أردوغان وحكمه بعد أن فشلت كل المحاولات السابقة في الإطاحة به. فكانت محاولة الانقلاب هي محاولة تظافرت فيها جهود قوى داخلية بقيادة جماعة فتح الله غولن وجهات داخلية أخرى مع قوى دولية خارجية منزعجة من عودة تركيا إلى الساحة الدولية كلاعب قوي اقتصاديا وسياسيا.

العوامل التي أدت إلى فشل الانقلاب

من خلال ما تابعناه وشاهدناه من أحداث المحاولة الانقلابية فإن هذه المحاولة لم تكن بسيطة أو محدودة قامت بها مجموعة فتح الله غولن فقط، وإنما عدد المعتقلين والمشاركين فيها كان كبيرا،  وكذلك نوعية الرتب العسكرية كانت على أعلى مستوى، مما يدل أن الانقلاب كان مخططا له منذ مدة طويلة، وكذلك هو انقلاب شاركت فيه أطراف داخلية وخارجية راهنت بشكل كبير على قتل الرئيس أردوغان وقطع كل وسائل الربط بين أجهزة الدولة حتى يسهل لهم السيطرة على كامل البلاد.

غير أن محاولة الانقلاب على الرغم من التنسيق بين قوى الداخل والخارج الا أنها فشلت ولم تحقق النتائج المرجوة مثلما كان الأمر في الانقلابات السابقة. ويعود فشل هذه المحاولة إلى عدة عوامل أهمها:

1- الانقلابيون وجدوا أنفسهم مجبرين على تغيير موعد انطلاق عملية الانقلاب من الساعة الثالثة صباحا الى الساعة الثامنة مساء تقريبا عندما تفطنوا أن المخابرات علمت بالمحاولة الانقلابية، لذلك حاولوا القيام بعملية استباقية حتى لا تفشل العملية، وقد أثر هذا مباشرة بشكل كبير على العملية وأربك الخطة برمتها وأوقعهم في تخبط واضح والحمد لله.

2- فشلهم في قتل رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان الذي أسرع في الاتصال بوسائل الاعلام، ودعا الشعب التركي الى النزول الى الشوارع لحماية البلاد، وحماية الديمقراطية فيها. وهذا السلوك الحكيم الذي انتهجه أردوغان يكاد يكون أهم سبب مباشر في إفشال التجربة وإدخال الاحباط على نفسية الانقلابيين وفشل خطتهم.

3- نزول الشعب الى الشارع ومساندته لقوات الأمن في مواجهة الانقلابيين والقدرة على استعادة المطار رغم الخسائر الكبيرة وظهور أردوغان بينهم وقيامه بخطاب طمأنة للشعب التركي الذي كان السبب الحقيقي في إفشال الانقلاب وصموده في الشوارع مما دفع بعدد كبير من الانقلابيين الى الاستسلام وفرار بعضهم.

4- الدور الايجابي الذي لعبته كل وسائل الاعلام التركية في دعوة الشعب الى النزول الى الشوارع  من أجل الحفاظ على المسار الديمقراطي وإفشال محاولة الانقلاب وفضح أعمال الانقلابيين الإجرامية وعرض صور بطولية للمواطنين ولقوات الأمن في مواجهتهم لعصابات الانقلاب.

5- إعلان أحزاب المعارضة مساندتها للحكومة وللدولة، ورفضها للمحاولة الانقلابية، مما جعل الانقلابيين يدركون تماما أنهم فشلوا، وأن محاولتهم الانقلابية كانت مغامرة خاسرة مرفوضة من قبل الشعب والحكومة والمعارضة ووسائل الاعلام والجيش نفسه.

6- دور المساجد في تعبئة الجماهير للنزول الى الشوارع والدعاء والرفع من معنويات المواطنين الذين كانوا يواجهون الدبابات بصدور عارية الى جانب قوات الأمن .

7- الدور الحرفي للقوات الخاصة التي أسسها داوود اوغلو  في مواجهة الانقلابيين، حيث أدارت هذه القوات المعركة بحرفية عالية، وأثبتت قدرتها ومهارتها في مواجهة هذه المؤامرة الانقلابية الهمجية، واستطاعت خلال خمس ساعات إنهاء المحاولة الانقلابية وإعادة الوضع الى مجراه الطبيعي في البلاد.

8- ظهور عبد الله غل وداوود أوغلو على وسائل الاعلام وتنديدهما بالمحاولة الفاشلة، وكذلك ظهور شخصيات وطنية وفنية ورياضية منددة بالانقلاب وبالانقلابيين.

9- النضج السياسي الذي تميزت به النخبة السياسية التركية التي رفضت أي محاولة انقلابية ضد الخيار الديمقراطي وإرادة الشعب التركي مما عمق الوعي بضرورة الحفاظ على وحدة الشعب التركي، وساهم في تعزيز التجربة السياسية التركية  المعاصرة.

10- دور منظمات المجتمع المدني التي لعبت دورا مهما في تعبئة الشعب وتوعيته نحو النزول الى الشوارع وقيام هذه المنطمات بتوزيع الطعام والماء للمواطنين المرابطين في الميادين والساحات العامة.

لقد تظافرت كل هذه العوامل، وشكلت نقاط قوة في مواجهة أفاعي الداخل الانقلابية و ذئاب الخارج المتربصة بتركيا. لم يكن فشل المحاولة الانقلابية فشلا لجماعة فتح الله غولن وأفاعي الداخل المتحالفة معها فقط، بل كان أيضا ضربة قاصمة للقوى الخارجية التي ساهمت في الانقلاب على نظام الحكم في تركيا.

الفرص التي قدمها فشل الانقلاب إلى أردوغان

على غير ما هو متوقع فقد كانت محاولة الانقلاب فرصة ثمينة جدا لصالح أردوغان ولحزب العدالة والتنمية، حيث كانت المحاولة الانقلابية سببا في توسيع شعبية الرئيس أردوغان والالتحام به بكل الشرائح الشعبية التي هبت الى الميادين استجابة لندائه ليلة الانقلاب، وهذا الرصيد الشعبي والدعم الشعبي الواسع لأردوغان سيستثمره أردوغان بشكل إيجابي للقيام بتغييرات جذرية وبإصلاحات هيكلية لم تسمح له الظروف قبل وقوع الانقلاب من تطبيقها، ولعل أهم هذه الاصلاحات هو الاستفتاء الشعبي على الدستور المدني وتغيير النظام السياسي من برلماني الى نظام رئاسي قد يصوت عليه الشعب التركي بنسبة كبيرة جدا، وقد تعزز موقع أردوغان في المرحلة القادمة.

النقطة الأهم في هذه المحاولة الانقلابية أن أردوغان سيقدم على إصلاحات هيكلية جذرية في المؤسسة العسكرية وفي كل الأجهزة الأمنية بما فيها المخابرات العامة، خصوصا أنه لم يجد الفرصة قبل الانقلاب لإحداث سوى إصلاحات جزئية غير مؤثرة. لذلك فإن عملية التطهير التي يقوم بها الآن هي إعادة هيكلة لكل مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية بما فيها جهاز القضاء وكل القطاعات الحساسة التي يمكن ان تهدد أمن الدولة.

من ناحية أخرى كان فشل الانقلاب فرصة جيدة لتقليل الخلاف مع المعارضة والالتقاء على أرضية مشتركة ربما يتحول في المستقبل إلى تشريك المعارضة في الحكومة، وربما أيضا تقبل المعارضة بالمصادقة على مسودة الدستور الجديد والقبول أيضا بتغيير النظام السياسي إلى نظام رئاسي كانت تعارضه قبل مرحلة الانقلاب. وقد رأينا أن خطاب زعيم حزب الشعب الجمهوري كان إيجابيا وكذلك خطاب زعيم الحركة القومية، كما رأينا مشاركة حزب العدالة والتنمية في مظاهرة حزب الشعب الجمهوري المنددة بالانقلاب.  

محاولة الانقلاب فرصة لأردوغان للقضاء على تنظيم الكيان الموازي الذي وقع في الفخ وخرجت الأفاعي من جحورها، الأمر الذي قد يسهل على الدولة التركية تصفيته بعد أن مسكت كل خيوطه، وفكت كل شفراته، وتبينت مؤامراته وتحالفاته مع الخارج. وهذا سيفسح لأردوغان إلى إعادة هيكلة أجهزة الدولة من جديد والقضاء على أي كيان مواز مهما كانت انتماءاته، مما يعزز مشروعه السياسي والمضي قدما نحو تحقيق مشروع 2023.

أما على صعيد الملف الكردي فقد رأينا تعاطفا كبيرا من الشعب الكردي مع أردوغان ورفضهم للمحاولة الانقلابية ونزول الأهالي من الأكراد الى الشوارع استجابة لنداء أردوغان ومرابطتهم في الميادين في دياربكر وعدة مناطق كردية أخرى، الأمر الذي سيذيب جبل الجليد بين الحكومة التركية والأكراد، وسيستثمرها أردوغان لتعزيز موقعه في المنطقة الشرقية وإحداث مصالحة وطنية كبرى تقوي الجبهة الداخلية وتنهي ملف حزب العمال الكردستاني.

على مستوى السياسة الخارجية أدرك أردوغان تماما أن هناك قوى دولية وخصوصا الولايات المتحدة الامريكية تعمل ضده، وتسعى الى الانقلاب وتخادعه، مما سيجعله يسرع في تقوية العلاقة مع روسيا والدخول معها في تحالف استراتيجي لن يكون في صالح الولايات المتحدة، كما أن تركيا لن تتنازل عن سياسة تقليل الأعداد وستحاول مراقصة الذئاب بطريقة مختلفة تبعد عنها التهديدات المباشرة.

صحيح إن العلاقة مع الولايات المتحدة ستتوتر أكثر إذا رفضت الأخيرة تسليم فتح الله غولن الى تركيا، ولكن تركيا تدرك تماما أنه يجب عليها مناورة هؤلاء الذئاب حتى لا تعود الى العزلة الدولية من جديد. إن تعزيز تركيا لجبهتها الداخلية سيجعلها تتحرك بكل ثقة في الخارج، وتناور بشكل أكثر براغماتية وأكثر قوة. قد تشهد المرحلة القادمة رؤية تركية جديدة تجاه الملف السوري، ولن تقدم تركيا على الدخول الى سوريا وفرض منطقة عازلة الا بعد أن تحدث هيكلية جديدة على المؤسسة العسكرية.

أما على مستوى علاقة تركيا بالاتحاد الأوروبي فقد تشهد المرحلة القادمة توترا بين تركيا والاتحاد الأوروبي لا سيما إذا أقدمت تركيا على تنفيذ عقوبة الإعدام التي هدد الاتحاد الأوروبي بإلغاء التفاوض على عضوية تركيا في الاتحاد.

خلاصة القول لقد كانت محاولة الانقلاب منعطفا جديدا لانطلاقة إصلاحات جذرية داخل تركيا، ودفعا قويا نحو تقوية مشروع تركيا القوية أو مشروع 2023 الذي رسمه أردوغان وحزب العدالة والتنمية نحو مشروع تركيا المستقبل. غير أن تهديد الانقلاب مازال قائما لأن أفاعي الداخل لن تنتهي، كما أن ذئاب الخارج ستظل تعمل ليلا نهارا لإضعاف تركيا وتهديد وحدتها. إن المرحلة القادمة بالنسبة الى تركيا هي القضاء على كل أفاعي الانقلاب الموجودة في الداخل والتصدي في نفس الوقت لكل مؤامرات الذئاب الموجودة في الخارج. 

عن الكاتب

د. زبير خلف الله

كاتب - المركز العربي التركي للتفكير الحضاري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس