د. زبير خلف الله - خاص ترك برس

من المفارقات الغريبة في استقالة داود أوغلو أن الرئيس أردوغان يواجه نفس الموقف الذي تعرض إليه أستاذه من قبل المرحوم نجم الدين أربكان عندما أعلن أردوغان في سنة 1999 انشقاقه عن حزب الفضيلة وتشكيل حزب العدالة والتنمية سنة 2001، ومن المفارقات الأغرب أيضا أن نجد أن نفس السبب الذي دفع بأحمد داود أوغلو إلى الاستقالة هو نفسه السبب الذي دفع أردوغان في تلك الفترة إلى الانشقاق وهو هيمنة الزعيم على كامل مفاصل الحزب واستحواذه على كافة القرارات المصيرية.

فكما أن التجربة الأربكانية لم تستطع أن تحافظ على أبنائها وتركتهم ينسحبون من المشهد فإن التجربة الأردوغانية أيضا لم تستطع استيعاب أبنائها الذين ساهموا في نجاحها إلى درجة كبيرة. فهل يمكن أن نقول إن التجربة التركية بدأت تاكل أبناءها وتدخل في مسارات غير واضحة الملامح؟ أم أن استقالة داود اوغلو ستكون مؤشرا على ولادة بديل جديد لحزب العدالة والتنمية الذي كان هو بدوره بديلا لحزب الرفاه بزعامة أربكان؟

على الرغم من أن الزعيم أردوغان نجح فعلا في تشكيل تجربة سياسية ناجحة نقلت تركيا من أتون أزمة اقتصادية وسياسية خانقة الى دولة باتت تطمح أن تكون من الدول الخمس الأولى في العالم، إلا أن نجاحه هذا لم يأت من فراغات فقد كان معه شخصيات مهمة لعبت معه دورا مركزيا في صناعة هذه التجربة الناجحة ونحتت معه مساراتها حتى وصلت إلى ما وصلت اليه من النجاحات الباهرة.

لا أحد ينكر الدور الكبير الذي لعبه عبد الله غل وداود أوغلو وبولنت أرنتش وعلي باباجان وحسين تشيليك في إنجاح التجربة ودعمهم الكبير لأردوغان، وساهموا بشكل فعال في إنضاج التجربة التركية على كافة المستويات وإرساء أسسها الفكرية والفلسفية، وحولوها الى نموذج عالمي أحدث نقلة نوعية في بنية التفكير السياسي الاسلامي، إلا أن هذه الشخصيات المركزية اختفت الآن بل تراجعت إلى الوراء، وفضلت الانسحاب من المشهد وكأن التجربة التركية مثل التجربة الأربكانية من قبل بدأت تأكل أبناءها وتفقد قياداتها وكوادرها الذين صنعوها.

هل أردوغان ديكتاتور حقا؟

أردوغان ليس معصوما من الخطأ وهو أيضا ينتمي الى منظومة ثقافية وحضارية تسكن في عقلها الجمعي ثقافة هيمنة الزعيم الملهم والمخلص، وكلها عوامل تساعد على إنتاج الديكتاتور والمستبد. لا نستطيع أن نقول إن أردوغان ديكتاتور لأن الديكتاتورية لا تبني حضارة بل تهدمها ولا تقدم بالشعب بل تهمشه.

لو كان أردوغان ديكتاتورا لما وصلت تركيا إلى قمة الهرم في التقدم والرقي، ولما نجحت في أن تفتك المرتبة العاشرة عالميا، لكن يمكن أن نقول إن أردوغان لم يستطع أن يكبح طموحه وسيطرة حلم بناء تركيا القوية وحرصه الأكبر على نجاحه جعل شخصيته تهيمن أكثر على المشهد.

ورغم أن تقدم تركيا وتطورها ليس دليلا قويا يبرئ أردوغان من تهمة الديكتاتورية الا أن المشهد السياسي والديمقراطي في تركيا يؤكد مما لا شك فيه أن التجربة الديمقراطية وصلت إلى حالة من النضج مقارنة بتركيا ما قبل سنة 2002 حين كانت العلمية الديمقراطية مرتهنة بيد المؤسسة العسكرية التي كانت تتدخل في كل صغيرة وكبيرة وتتحكمفي المشهد السياسي بشكل تام.

اليوم تركيا في عهد أردوغان لم تشهد أي هيمنة عسكرية تهدد الديمقراطية في تركيا أو أي خرق للعملية الديمقراطية. صحيح أن هناك تجاذبا بين حزب العدالة والتنمية وجماعة فتح الله غولن وبعض الأحزاب الأخرى إلا أن المسار الديمقراطي في تركيا والنظام السياسي يتفاعل معه الجميع بكل إيجابية، وأن الحرب على الارهاب والفساد عرفت تطورا كبيرا وتقدما واضحا في عهد أردوغان وفي عهد داود أوغلو.

ليس من الانصاف فعلا إرجاع السبب بأكلمه الى الرئيس أردوغان لكن يمكن أن نقول إن أردوغان يتحمل نسبة كبيرة من المسؤولية تجاه مايحدث من فقدان التجربة التركية لمثل هذه الشخصيات والطاقات الفاعلة، وكأن أردوغان نسي أن السبب الذي جعله ينسحب من حزب الرفاه بسبب هيمنة أستاذه أربكان أنه أيضا سيلاقي نفس المصير وسيفقد رفقاء دربه الذين ناضلوا معه ونحتوا معه التجربة من بدايتها إلى نهايتها. هناك حقيقة بات يتفق عليها الجميع وهي أن أردوغان لم يترك فرصة لاجتراح بدائل جديدة وهذه حقيقة لا يختلف عليها اثنان.

التجربة التركية.. الامتحان الجديد

التجربة التركية بدأت تجذر رؤيتها الفلسفية وتراكم أدبياتها الفكرية مع مجيء داود أوغلو الذي أعطاها بعدا فلسفيا وفكريا، وحولها إلى نموذج له أدبياته ورؤيته، إلا أن هذه التجربة التركية تشهد اليوم امتحانا جديدا وهذا أمر طبيعي ولكن الدرس الذي يمكن أن نستفيد منه أن هيمنة أردوغان على الحزب وعلى المشهد السياسي عطل التجربة وأدخلها في نفق لا نعرف عواقبه. هناك أخطاء تتمثل في كون كل التجربة التركية حصرت في شخص أردوغان إلى درجة خفوت شخصية داوود اوغلو وبقية الشخصيات الأخرى: مثل عبد الله غل وبولنت أرنتش وداود اوغلو وغيرهم، وهذا خلق قلقا و وانزعاجا وإرباكا للتجربة.

في تقديري أن داود اوغلو معارض جدا للنظام الرئاسي الذي يريده أردوغان لأنه سيزيد من تغول الرئاسة وهيمنة أردوغان على كل شي، وبالتالي يتحول أحمد داود أوغلو الى موظف لديه، ويتحول الخوجة إلى موظف لدى الرئيس وهو ملا يقبل به الخوجة داود أوغلو. أردوغان شخصية جبارة لكن هذه الكاريزما تحولت الى مشكلة ربما تهدد مستقبل التجربة التركية برمتها.

المشكلة الآن ليست في استقالة داود أوغلو إنما المشكلة في كون أن نفس السيناريو سيتكرر مع رئيس الوزراء القادم إذا لم يتم حل هذه المشكلة وتحديد صلاحيات رئيس الدولة وصلاحيات رئيس الوزراء، وأهم خطر يهدد مستقبل التجربة أنها تجربة اختزلت في شخصية أردوغان الذي لم يدرك هو نفسه أن مثل هدا الاختزال سينهي التجربة بمجرد رحيله هو نفسه.

لا شك في أن مكان أردوغان لم يستطع داود اوغلو أن يملأه رغم أنه عالم ومفكر إلا أن مسار التجربة على قدر نجاحاتها آيلة إلى السقوط إذا لم يتم تعديل ميزان القوى داخل حزب العدالة، ويدرك كل طرف أن لديه صلاخيات لا يمكن تجاوزها. أعتقد أن ذكاء أبناء حزب العدالة والتنمية وعمق أردوغان سيجعلهم ينتبهون إلى مثل هذا المأزق الذي أفشل العديد من التجارب الناجحة في عدة دول أخرى.

في اعتقادي الإخوة الأتراك يقدمون رؤية جديدة مرة أخرى في كيفية إدارة الدولة وفي كيفية تحديد صلاحيات كل طرف وما استقالة داود أوغلو وخطابه الراقي إلا دليل على أن حزب العدالة والتنمية يتمتع بنضج يرفض أي هيمنة لأي شخص، وأن التنافس على السلطة أمر محمود إذا احترمت الضوابط الأخلاقية ومعايير اللعبة الديمقراطية.

علينا أن ننظر إلى حدث استقالة داود أوغلو بشكل إيجابي يعكس أن الفكر السياسي الإسلامي من خلال تجربة العدالة والتنمية يعيش حالة من النضج والوعي العميق، وأن هناك رفضا تاما لعودة أي شكل من أشكال السلطوية او الهيمنة.

في تصوري يجب على الأتراك أن يعدلوا من موازين القوى، ويرسموا خريطة لصلاحيات رئيس الدولة ورئيس الوزراء وإلا فإن الأزمة ستظل مستمرة، وإن ماجرى على داود أوغلو مثلما جرى من قبل على عبد الله غل وغيره من رفقاء درب أردوغان سيتكرر مع أي شخص آخر مهما كان استسلامه لقرارات أردوغان.

إذا استمر أدروغان باسلوب اختزال التجربة في شخصه سيدمر هذه التجربة وسيجد نفسه وحيدا محاطا فقط بمجموعة من الانتهازيين الطامعين فقط والفاقدين لأي رؤية ولأي مشروع وهم مع الأسف كثر في كل مكان. لذلك فليتدارك أردوغان الأمر قبل أن تأكل التجربة التركية أبناءها.

عن الكاتب

د. زبير خلف الله

كاتب - المركز العربي التركي للتفكير الحضاري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس