سعيد الحاج - المعهد المصري للدراسات

في لقائه على قناة الخليجية، تحدث الرئيس التركي رجب طيب اردوغان مرة أخرى عن علاقات بلاده مع مصر وموقفها منها، مؤكداً على عمق العلاقات بين البلدين والشعبين وعلى رغبة تركيا في تجاوز القطيعة الحالية. قال اردوغان إن بلاده حريصة على العلاقات وتريد تطبيعها مع القاهرة، وإن العلاقات التجارية والاقتصادية قد تكون المدخل لذلك، لكنه أكد على أن لبلاده شروطاً لعودة العلاقات السياسية والدبلماسية مع النظام هناك، وأن هذه العلاقات لها سقف لن يصل للتواصل المباشر على المستوى الرئاسي بما يشمله هو لأنه يرى ذلك "أمراً غير أخلاقي".

للوهلة الأولى، لا يبدو حديث الرئيس التركي مختلفاً في مضمونه عن سياق الموقف التركي المعروف والمعلن منذ مدة، لكن الذي أعطى لهذه التصريحات دلالات أبعد من مجرد "تكرار" موقف أنقرة أمران متلازمان، الأول كونها أتت على هامش زيارة ولي العهد السعودي محمد بن نايف إلى تركيا، والثاني كونها أتت على شاشة قناة سعودية (أيضاً على هامش زيارة الأمير). وهما سياقان ألقيا بظلالهما على اللقاء والتصريح، وأثارا علامات استفهام حول مبادرة تركية محتملة أو وساطة سعودية ممكنة في هذا الملف.

فما هي دلالات هذه التصريحات وانعكاساتها على محور أنقرة – الرياض – القاهرة؟

الدلالة الأولى للتصريحات هي ثبات موقف أنقرة من التقارب مع القاهرة في سياقه العام جداً، والذي يمكن تلخيصه بأربع تفصيلات هي الرغبة المبدئية، والأولوية الاقتصادية، والاشتراط لتحسين العلاقات الدبلماسية، وتحديد العلاقات الدبلماسية - حال تحسنها - بسقف محدود بالمستوى الوزاري دون الرئاسي (اردوغان والسيسي).

الدلالة الثانية تتعلق بالشروط التركية لتطبيع العلاقات والتي يبدو أن تعديلات ما طرأت عليها مرة أخرى. كانت تركيا قد تخلت عن خطاب "عدم الاعتراف بنظام الانقلاب" ورفض التحدث أو التعاون معه لصالح تقديم شروط إجرائية/تنفيذية لتحسين العلاقات معه. اليوم، مع حديث اردوغان، يبدو أن الشروط المشار إليها قد اختصرت مرة أخرى لتقتصر على "الإفراج عن مرسي ورفاقه" في ظل غياب الحديث عن الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية في مصر كما سبق وذكرت على لسان أكثر من مسؤول تركي، رغم أنه لا يمكن الجزم بأن الرجل قد ذكر شرط الإفراج بشكل حصري وليس على سبيل المثال لأهميته.

ثالثاً، وفق هذه التصريحات وتزامنها مع زيارة ولي العهد السعودي إلى تركيا ونقاشه مع القيادة التركية مختلف شؤون المنطقة وملفات الاهتمام المشترك، يمكننا أن نقدّر أن الملف المصري قد خرج من حيز الملفات الخلافية المنحـّاة جانباً إلى الملفات الموضوعة على طاولة الحوار.

لكن، إذا كان الموقف التركي لم يتغير كثيراً، ولا يبدو أن نظام السيسي قد أبدى مرونة أكبر من السابق بخصوص التقارب مع تركيا، فما الجديد في هذه التصريحات؟

الحقيقة أن صيغة العلاقة بين تركيا والسعودية قد اختلفت نوعاً ما مؤخراً تبعاً لتبدل الأوضاع داخل الدولتين. فتركيا التي عانت لفترة طويلة جداً من العزلة الخارجية والتحديات الأمنية الداخلية فضلاً عن انعكاسات الأزمة مع روسيا على دورها في سوريا وعلى تبلور المشروع الكردي في شمالها، تبدو اليوم أفضل حالاً بعد استتباب الأمن إثر إفشال الانقلاب والتقارب مع روسيا وعملية درع الفرات، وبالتالي فهي أكثر ثقة في نفسها وأقل حاجة للدعم وأكثر قدرة على الإفادة من الحاجة للاستفادة.

من جهة أخرى، لا تبدو الرياض في أحسن حالاتها اليوم، فعدا عن الشاغل المحلي المتعلق بترتيب البيت الداخلي واستحقاقات انتقال السلطة، ثمة استعصاء في الملف اليمني، واهتزازات اقتصادية على هامش انخفاض سعر النفط و استحقاقات خطة 2030، والتوتر الملحوظ في العلاقات مع واشنطن سيما بعد قانون جاستا بكل دلالاته وارتداداته.

وبالتالي يبدو أن كفة أنقرة باتت راجحة على كفة الرياض في ميزان العلاقات الثنائية، خصوصاً بعد الموقف التركي المتقدم إزاء قانون جاستا وإعلان اردوغان - في نفس اللقاء - وقوف بلاده مع السعودية واستعدادها للتعاون معها في أكثر من بعد سيما القانوني - الحقوقي، وهو ما يصب في خانة حاجة الرياض لدعم تركيا سياسياً إضافة لكون الأخيرة  في مقدمة خيارات الاستثمارات السعودية مستقبلاً.

لكن، هل يعني ذلك أن صانع القرار التركي قد اقتنص الفرصة السانحة ويبدو اليوم قادراً على بلورة اتفاق ما مع النظام المصري بوساطة سعودية؟ سيما وأنه - كما الرياض - يريد تهدئة الملفات المشتعلة ونسج تحالفات لتمتين المنطقة في وجه التحديات والمتغيرات المتسارعة؟

أعتقد أن ما سيحدد مآلات هذا الملف أربعة عوامل:

الأول، مدى قناعة الرياض بضرورة التقارب التركي - المصري، وفق رؤيتها لتطورات المنطقة ومنظومة تحالفاتها، وأرى أن هذا الأمر متحقق إلى حد بعيد.

الثاني، مدى قدرة الرياض على الضغط بشكل مؤثر على قرار النظام المصري، سيما في ظل عدة إشارات على "تفلت" الأخير وتغريده خارج السرب السعودي - الخليجي - العربي بعلاقاته مع روسيا وإيران وموقفه من نظام الأسد وغيرهما.

الثالث، مدى إمساك السيسي بزمام الأمر وآلية اتخاذ القرار في مصر، إذ كلما كان أكثر قدرة على ذلك امتلك مساحة أكبر على المناورة ومقاومة الضغوط واللعب في المساحات الرمادية.

الرابع، حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والمجتمعي المستمرة والمتفاقمة في مصر الأمر الذي سيحيج النظام أكثر للمعونات الاقتصادية السعودية التي لن تكون بلا ثمن.

في الحقيقة، فإن أقرب اللحظات إلى إبرام الصفقات والتسويات هي تزامن التأزم بالنسبة لمختلف الأطراف. وفي المشهد المصري الداخلي ثمة أزمة واضحة للنظام سيما في الملف الاقتصادي، لكنها لا تنفي أزمة المعارضة غير القادرة منذ فترة طويلة على تحريك المشهد بل وتراجع إمكانياتها لفعل ذلك وتدني سقف توقعات ومطالب بعض أطيافها (وإن كان بشكل غير معلن) لتتمركز حول إخراج المعتقلين بشكل رئيس، وهو ما يوحي - نظرياً على الأقل - بإمكانية إجراء تسوية ما بغض النظر عن مدى استعداد بعض الأطراف لها أو ماهية شروطها.

فإذا ما كانت هذه الفكرة حاضرة في الأذهان، فلا غنى للنظام المصري عن تركيا باعتبارها أكثر الأطراف قدرة على التأثير على المعارضة المصرية، كما إن العلاقات التركية - السعودية التي أخذت فيما يبدو منحى جديداً مؤخراً تتيح لأنقرة (عبر الرياض) الضغط على السيسي ليقدم "تنازلات" بين يدي استحقاق التقارب.

هذا التقارب المفترض لا أراه ممكناً على المدى القريب، باعتبار ما سيحتاجه من مقدمات ومتطلبات ومفاوضات، لكنه ممكن جداً على المدى المتوسط، سيما إذا ما اقتنع النظام المصري بأن الإفراج عن المعتقلين السياسيين لن يؤدي إلى تحد سياسي أو وجودي له (فضلاً عن أن أي تغير في النظام نفسه سيفتح الباب واسعاً على ذلك). في هذه النقطة تحديداً ثمة استثناء واحد، هو الرئيس محمد مرسي بما يحمله من رمزية ومشروعية والموقف الذي قد يتخذه مستقبلاً ويصعب الجزم به الآن، فهل يمكن أن تعرض تركيا إخراجه من مصر واستضافته على أراضيها كجزء من الحل، وهل يمكن أن يقبل هو ذلك، أم تبقى الأمور بين المراوحة والتدرج البطيئ؟!!    

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس