جلال سلمي - خاص ترك برس

أوردت صحيفة حرييت التركية أن ألمانيا تستعد لتمديد فترة بقاء جنودها في قاعدة إنجرليك التركية، بالإضافة إلى تزويد القاعدة المذكورة بأجهزة الإنذار المبكر.

قبل نقاش الأسباب التي دفعت ألمانيا لإعلان نيتها عن تمديد فترة بقاء جنودها على الرغم من التلويح بسحبهم العام الماضي، لا بد من الإشارة إلى أن العلاقات التركية الألمانية شهدت تدهورًا شديدًا بعد إعلان البرلمان الألماني اعترافه بأحداث المذبحة الأرمنية وضلوع الإعلام الألماني بحملة تشويه شرسة بحق تركيا ورئيسها وحزبها الحكم بعيد محاولة الانقلاب الفاشلة، حيث أدعى الإعلام الألماني أن أردوغان يستغل الأحداث لترسيخ حكمه "الدكتاتوري".

أيضًا تجدر الإشارة إلى أن تركيا لم تسمح للنواب الألمان زيارة قاعدة انجيرليك ودراسة الأوضاع الأمنية إلا بعد تصريح السلطات الألمانية بأن قرار البرلمان لا يأتي في الإطار القانوني الإلزامي إلى جانب تخفيف وسائل الإعلام الألمانية حدة الهجوم على تركيا، ليطرح المتابع لمسار العلاقات بين الطرفين تساؤلًا مفاده "لماذا قدمت ألمانيا هذه التنازلات مقابل الإبقاء على تعاونها العسكري مع تركيا؟".

للوهلة الأولى يخطر على بالي مبدأ "توازن القوى" الواقعي الأمني الذي بدأ الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسه ألمانيا، بتنفيذه بشكل ملحوظ عشية اتساع بوادر التقارب الروسي التركي. يقوم المبدأ المذكور على قيام دولة ما باستقطاب دولة أخرى تشارك في قطب لا يوافق المسار السياسي للدولة المستقطِبة، وقد تشمل محاولة الاستقطاب انقلابًا عسكريًا، وهذا الخيار لم ينجح في تركيا، أو دعمًا عسكريًا أو اقتصاديًا أو دبلوماسيًا.

يطلق على أنواع الدعم المقدمة اسم "سياسة الاحتواء" أيضًا، فالاتحاد الأوروبي شعر وبشكل جلي أن تركيا باتت لا تعير سياسته أو مطالبه أي اهتمام، حيث رأت تركيا في الدب الروسي المسند المريح لتنفيذ عدد من السياسات الأمنية والاقتصادية التي قطفت ثمارها اليانعة بشكل سريع ويسير جراء تقديم الطرف الروسي الدعم الأمني والسياسي، بغية إرساء ركائز التوافق التي هو أيضًا بحاجة لها.

لقد عاد الاتحاد الأوروبي إلى سياسته الناعمة مع تركيا لكسبها إلى جانبه لتنفيذ بعض السياسات التي لا تتم إلا من خلال التعاون المشترك. ربما لاحظ الغرب حجم القوة التي اكتسبتها تركيا جراء تحركها السياسي والاقتصادي المشترك مع روسيا، لا سيما بعد عرض روسيا على تركيا تأسيس منظومة دفاعية متكاملة، فهرول مسرعًا نحو تركيا يستجدي التعاون معها ليخفف من وتيرة تآزفها مع روسيا، فالتوافق التركي الروسي التام يعني خسارة الغرب في المعادلة السورية وقضية القرم، بالإضافة إلى الضغط الاقتصادي الذي قد يتعرض له من تركيا التي قدمت بديل لروسيا في نقل غازه نحو أوروبا الشرقية، حيث يعلم الغرب أنه سيضطر في يوم من الأيام إلى رفع الحصار الاقتصادي المفروض على روسيا وسيعود لاستيراد الغاز الروسي، وفي ذلك الحين سيكون مضطرًا للتوافق مع تركيا التي ستكون حينئذ مركز توريد الطاقة، وهنا على الأرجح يحاول الاتحاد الأوروبي تهدئة أمواجه الهجومية ضد تركيا واستبدالها بأجواء ناعمة لتسوية المسائل المذكورة بأقل الخسائر، فضلًا عن محاولته لكسر الاحتكار الروسي للغاز الطبيعي، حيث أراد الغرب استغلال العزلة الدولية التي أحاطت بتركيا بعد تدهور علاقاتها مع إسرائيل وروسيا وإيران لصالح تمرير سياساته الاقتصادية والأمنية، لا سيما تلك المتعلقة بشروط خطوط أنابيب نقل الغاز المارة عبر تركيا، حيث أراد الغرب فرض رؤيته على تركيا في جعلها دولة تمر منها الطاقة دون أن يكون لها سلطة عليها، ولكن مع عودة العلاقات التركية الروسية إلى مجراها لاحظ الاتحاد الأوروبي أن مسعاه على شفير السقوط فسارع لإنقاذ الموقف من خلال تخفيف وتيرة الاحتدام مع تركيا وعبر التنسيق الأمني والتقارب الاقتصادي معها، ولعل المثال الألماني في التقارب يكاد أن يكون أوضح مثال على ذلك.

وبالتركيز على التقارب الألماني التركي بشكل خاص، يمكن القول إنه إلى جانب تأثير مبدأ توازن القوى على السياسة الألمانية، فإن سياسة اللاجئين التي ساهمت في خلق تضاؤل حاد في شعبية الحزب الحاكم لها أيضًا دورًا في دفع ألمانيا لتغيير سياستها الخارجية حيال تركيا، فاللاجئين ما زالوا يتدفقون والاتحاد الأوروبي ما زال تحت خطر إلغاء بعض اتفاقيات التكامل والحزب الألماني الحاكم بات تحت ضغط شعبي ملحوظ؛ مما دفعه حكومته لإعادة مسار التقارب مع تركيا التي وقعت قبل شهور اتفاقية إعادة اللاجئين مع الاتحاد الأوروبي وعلقتها جراء عدم التزام الاتحاد الأوروبي برفع التأشيرة عن المواطنين الأتراك الراغبين في زيارة دول الاتحاد الأوروبي.

كانت تركيا وما زالت المنقذ الأساسي وشبه الوحيد للاتحاد الأوروبي الذي يكابد ويلات تدفق اللاجئين، ولا يسع ألمانيا بزعامة ميركل، التي تعد الزعيمة الفعلية للاتحاد الأوروبي، إلا أن تتقرب لتركيا وتنقذ الاتحاد الأوروبي وحزبها الحاكم من الانفضاض أو الانهيار، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا في إطار سياسة "واحد زائد واحد" أي بالعامي "خذ وأعطي"، فالاتحاد الأوروبي يريد أن يأخذ ولا يعطي، أما تركيا فترفض ذلك بتعنت أصبح شديدًا عقب عودة علاقاتها مع إسرائيل وروسيا وبعض أقطار الوطن العربي، ولم يجد سوى التنازل والدعم لإعادة تفعيل اتفاقية إعادة اللاجئين.

بعيدًا عن أي أحكام مسبقة، عهدنا الغرب بالتعنت وفرض الرأي ولكن الآن بتنا نعهده بالتنازل أمام من يعارضه ويظهر موقف قويًا أمامه، وتركيا ليس المثال الوحيد على ذلك.

عن الكاتب

جلال سلمي

صحفي وباحث سياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس