د. سمير صالحة - الجمهورية

كرّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في طريق عودته من زيارة الى باكستان واوزباكستان قبل ايام أنّ الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي ليس خيار أنقرة الوحيد، وأنّه لا بدّ من مناقشة مسألة العضوية التركية في منظمة «شنغهاي». وقال إنّ «الذي يطلق يد تركيا في خيار من هذا النوع هو قرار الانسحاب البريطاني، وأصوات بدأت تُسمَع في فرنسا وإيطاليا تنادي بالانسحاب من المجموعة الأوروبية، ومنظمة شنغهاي تعطينا المزيد من حرية الحركة والعمل، وأنا بحثت ذلك مع الرئيسين الروسي والأوزباكي».

هي ليست المرة الأولى التي يُعلن فيها الرئيس التركي عن ضرورة طرح مسألة انضمام تركيا الى «شنغهاي» للتعاون، والتي تضمّ الصين وروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزباكستان، وبدأت باكستان والهند وإيران التحرّك في اتجاه أخذ مكانها أيضاً.

لكن ما يقوله يتعدى أن يكون مجرد رد على أصوات أوروبية تعالت، مطالِبةً بتعليق مفاوضات انضمام تركيا إلى الكتلة الأوروبية، احتجاجاً على المساس بالحياة الديموقراطية وحملات الاعتقالات التي تزايدت في الآونة الأخيرة ضدّ قيادات في حزب الشعوب الديمقراطي المحسوب على أكراد تركيا.

لا بل إنّ تصريحاته تأتي هذه المرة قبل يومين فقط من انتقادات جديدة وجّهها الرئيس التركي الى الغرب بسبب عدم وقوفه الى جانب تركيا كما ينبغي في مسائل الحرب على الإرهاب، وتحرّك تركيا العسكري في شمال سوريا والتصعيد الدائم ضد أنقرة في مسألة العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي.

شنغهاي تكتل إقليمي يرمي الى التصدي للتهديدات التى تشكّلها الجماعات الإسلامية المتشدّدة، وتهريب المخدرات وتوحيد الجهود لمكافحة الإرهاب والانفصالية والتطرّف والجريمة المنظمة وتعزيز التعاون العملي في المجال الاقتصادي - التجاري، ومجالات النقل والطاقة وبحث التحديات الأمنية الدولية والإقليمية الجديدة، وكيفية مواجهة المخاطر الناجمة منها.

تركيا في شنغهاي في قراءة برغماتية تقوم على الالتحاق بتكتل بشري اقتصادي عسكري ضخم، يوفّر لها المزيد من الفرص في التمدد والانتشار والصعود الإقليمي اهمها أكثر من 100 مليار دولار من التبادل التجاري مع دول المجموعة الآسيوية، وكذلك الانخراط في اقتصاد دولي تزيد ميزانيته عن 800 تريليون دولار.

رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، الذي كان يوقّع طلب الشراكة في الحوار مع شنغهاي قبل 3 سنوات قال يومها: «هذا يوم تاريخي بالنسبة لنا الآن، وبهذا الاختيار تعلن تركيا أنّ مصيرنا مثل مصير بلدان منظمة شنغهاي للتعاون».

المنظمة التي باتت تضمّ نصف عدد سكان العالم، وأقوى تكتل اقتصادي عالمي مرتقب مواز لحلف شمال الأطلسي، في قلب أكثر من مشروع استراتيجي عالمي مثل الطاقة والتجارة ونقل المواد الأولية ومشروع الخط الحديدي الطويل، الذي يُراد أن يكون على شاكلة خط الحرير التاريخي.

كما أنّ التقارب التركي الروسي تحت سقف شنغهاي قد يقود الى تعميق العلاقة الاقتصادية بين البلدين، وإزالة التباين في المصالح الاستراتيجية بينهما بدءاً من سوريا والمسألة الأوكرانية والاعتراف بضم القرم، وقد يتحوّل الى فرصة لوساطة روسية حقيقية باتجاه تسوية الصراع الأرمني الأذري والتوتر الدائم في ملف المضائق التركية.

الانضمام إلى منظمة شنغهاي هو مسألة مهمة استراتيجياً لتركيا لمنحها المزيد من الاستقلالية عن سياسات الناتو، ولتعويض عدم قبولها في الاتحاد الأوروبي. لكنّ المسالة ليست بمثل هذه البساطة حين ندقّق في حجم التباعد والمنافسة التجارية والأمنية بين الاستراتيجيات في المجموعة الآسيوية والإتحاد الأوروبي.

تركيا تقول إنّ خيار الإتحاد الأوروبي لن يكون الوحيد بعد الآن، وردود الفعل الروسية والصينية الاولى على إعلان أردوغان رغبة بلاده الالتحاق بمنظمة شنغهاي كانت مرحّبة، لكنّ الحقيقة هي أنّ تركيا ستكون شريكاً وحليفاً ليس لروسيا وحدها بل للصين وإيران أيضاً.

حقيقة موجعة أخرى وهي أنّ شروط ومتطلبات العضوية في شنغهاي ليست بالمستوى نفسه في موضوع التحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي، وهي بعيدة من مسائل الديمقراطية والحريات وحقوق الانسان التي تقدمها أوروبا على غيرها من القضايا، لكنّ ذلك سيعني تراجعاً مباشرا في علاقات تركيا بالمجلس الأوروبي التي هي عضو مؤسس فيه منذ ما قبل 70 عاماً.

أنقرة تقول إنّ الالتحاق بشنغهاي لا يعني التراجع عن الحلم الأوروبي، لكنّ العواصم الأوروبية لن ترضى بعضو ينسّق تجارياً واقتصادياً مع منظومة منافسة في آسيا وأوروبا.

لكنّ الأصعب بالنسبة لأنقرة سيكون قضية استمرار عضويتها في حلف شمال الاطلسي، ورغبتها الالتحاق بحلف مناوئ يسير ويتقدم باتجاه معاكس ويُعتبر خصماً للأطلسي ومنافساً له في أكثر من بقعة جغرافية.

فهل من المعقول أن تكون تركيا جزءاً من منظومة عسكرية غربية وسياسة تسلّح وتبادل معلومات وخبرات امنية مع الولايات المتحدة الأميركية كحليف وشريك منذ الخمسينات، وأن تنسّق مع روسيا والصين في منظومة أمنية عسكرية اخرى بأهداف وتطلّعات متعارضة تماماً؟

عضوية تركيا إذا ما اخذنا أهداف المنظمة في الاعتبار قد تعقّد مسألة أتراك الصين في اقليم سينجان، وفرص الاستجابة لتحقيق مطالبهم الثقافية والدينية والسياسية، وقد تتحوّل الى عقبة تعرقل مشروع الجمع بين تركيا والجمهوريات التركية في آسيا الوسطى، وكذلك حلم رمز الاسلام السياسي في تركيا نجم الدين اربكان الذي أسس وروّج لفكرة دي - 8 الاسلامية، واعلنت حكومة العدالة والتنمية أنها متمسكه بها بينما هي اليوم تنسق مع روسيا والصين.

بقي أن نقول إنّ تحوّلاً استراتيجياً تركياً من هذا النوع لن يقلق الشركاء في الغرب فقط بل الدول العربية والاسلامية التي نسّقت مع انقرة تحت سقف منظمة العالم الإسلامي في اتخاذ مواقف صارمة حيال طهران وسياساتها الاقليمية، فهل من الممكن أن تضرب تركيا بعرض الحائط كلّ ما بنته في الاعوام الاخيرة من علاقات مع دول الخليج تحديداً بمثل هذه السهولة؟

رئيس الأركان التركي خلوصي اكار حاول في الفترة الأخيرة التخفيف من ارتدادات إعلان أردوغان الالتحاق بشنغهاي بقوله إنّ أيّ تفاهم من هذا النوع سيكون وسيلة لتعميق التعاون بين أنقرة وحلف الأطلسي، لكنّ الرئيس التركي يتمسّك بتحذيراته لأوروبا والغرب بقوله إنّ الصديق الحقيقي هو مَن يقول كلاماً موجعاً لصديقه عند اللزوم، وهذا ما نفعله عندما نذكّرهم أنّ السلاح المُقدّم الى التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق هو سلاح الأصدقاء في الغرب.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس