د. سمير صالحة - العربي الجديد

تلتقي غالبية التحليلات والآراء في تركيا عند إيجابيات "إعلان موسكو" الثلاثي بين روسيا وتركيا وإيران، حيث ترى تضمنه مواد كثيرة قد ترضي أنقرة، وتعكس وجهة نظرها في مسار الحل المتعلق بالأزمة السورية. وقد جدّد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قوله، مرة أخرى، إن بلاده تخوض (وتقود) أكبر مواجهةٍ لها بعيد حرب الاستقلال في سبيل تحقيق وحدتها، ووحدة الشعب، ووحدة الوطن والدولة. "نعمل على حماية ما حصلنا عليه في لوزان عام 1923، لأن بعضهم يريد إعادتنا إلى معاهدة سيفر في 1920". قد يكون هذا الموقف توضيحاً تركيّاً لأسباب قرار تنسيق سورية مع موسكو وطهران، لكن القيادة السياسية التركية ستفعل أكثر، في جميع الأحوال، لتقديم التفسيرات والردود المطمئنة لحلفائها، المحليين والإقليميين المتردّدين حيال هذا التفاهم وجوانبه المقلقة.

أنقرة متمسكة بما قالته قبل أربعة أشهر إن مدينة الباب يجب أن تُحرّر أيّا كانت النتيجة، وإن اتخاذ أي خطوةٍ إلى الوراء لن يكون لصالح تركيا. تطهير الباب "بات ضرورةً، ليس من أجل تركيا فقط، وإنما لتحقيق الأمن والاستقرار في سورية. موقف تركيا هذا في مقدمة الأسباب التي حملتها لقبول اللقاء الثلاثي في موسكو. 

ومن بين ما دفع تركيا للتوجه إلى الطاولة الثلاثية في موسكو أيضا موقف واشنطن المعلن أن أولوياتها ليست إسقاط النظام السوري، بل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وحماية مصالح حليفها الكردي في شمال سورية، متراجعة عن تعهداتها السابقة لتركيا والمعارضة السورية والحلفاء الإقليميين. وقد وجدت تركيا التي كانت تناقش مسألة التغيير في سورية قبل خمس سنوات نفسها قد دخلت في نقاشات الباتريوت والحماية الأطلسية لها، ثم تهمة العلاقة مع "داعش" ومواجهة مشروع الكيان الكردي على حدودها الجنوبية والرفض الأميركي لعمليتها العسكرية نحو المنطقة الآمنة وورطة التوتر مع روسيا وإيران في حلب، والتآمر عليها لإسقاط قياداتها السياسية بعملية انقلابية في منتصف يوليو/ تموز الماضي، من دون أن ننسى لعبة الشد والجذب في صفوف المعارضة السورية السياسية والعسكرية التي أفقدت هذه المعارضة فرصة مواجهة كل هذا الاستهداف الداخلي والخارجي. 

كانت هذه التطورات بين دوافع الوجود التركي في موسكو. وأعطى انطلاق عملية درع الفرات، والدخول التركي إلى شمال سورية، بعضهم فرصة تسريع الحلحلة في الملف السوري، لكنه تحول أيضاً إلى أزمة أكبر، كلما طالت فترة الوجود العسكري التركي هناك، ويكاد يتحول إلى مصيدةٍ لتركيا، عبر تحريك خلايا إرهابية داخل تركيا وخارجها، للقيام بأعمال تفجير وقتل للعب ورقة الشارع التركي ضد حكومة "العدالة والتنمية"، أو استهداف حليفها "الجيش السوري الحر" لإضعافه وتشتيت قواه على الجبهات السورية. وهذا ما يمكن إدراجه كذلك في أسباب قبول القيادة السياسية التركية الذهاب إلى العاصمة الروسية.

ستكون مادة احترام سيادة سورية ووحدة أراضيها المعلنة في تفاهم موسكو مرتبطة بوجود القوات الأجنبية أيضاً، يقول بعضها إن النظام هو من استدعاها، لتعاونه في الحرب على التنظيمات الإرهابية، وبعضها، كما سيقول النظام، دخلت سورية من دون موافقته، فما الذي ستفعله تركيا، بعد كل هذه الخسائر البشرية والمادية في "درع الفرات"؟ هل ستغادر وتترك المعارضة وحيدةً في مواجهة النظام والوحدات الكردية التي يقودها صالح مسلم؟ ما هي ارتدادات تفاهم موسكو على خطة المنطقة الآمنة، إذا ما قرّر الأطراف إطلاق المفاوضات في الأسابيع المقبلة؟ أي نوع من التفاهمات هي عندما نرى تركيا تقدم خدمة لموسكو في مدينة الباب السورية في محاربة "داعش"، من دون أن تتحمّل الأخيرة أية خسائر؟

ثم كيف سترسم خريطة التحالفات الجديدة في مسالة أكراد سورية، وتحديداً حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يستعد لأخذ مكانه في اجتماع الأستانة، كما يبدو، بعدما عارضت أنقرة مشاركته في مؤتمرات إقليمية ودولية سابقة عديدة. باتت الصورة شبه مؤكدة، تركت موسكو الأطراف تتحارب في ما بينها، لتعلن هي انتصارها على الجميع في لعبة الكر والفر في شمال سورية، من دون خسائر تذكر. ما الذي ستفعله الإدارة الأميركية الجديدة؟ كيف سترد على إصرار موسكو الإمساك بجميع خيوط اللعبة السورية؟ كانت أنقرة تقول، منذ عام 2011، إن النظام السوري راحل خلال أشهر قليلة، بعد اندلاع الثورة، فكيف تصبح شريكاً لإيران وروسيا في تقديم الضمانات اللازمة للمتفاوضين السوريين، أي المعارضة والنظام، وتذكير من سيتخلى عن تعهداته من الجانبين بضرورة تنفيذها والالتزام بها؟ هل ستكون على مسافةٍ واحدةٍ من الطرفين، أم هي هناك لحماية حقوق قوى المعارضة؟ وما الذي سيحدث، إذا ما قرّرت المعارضة أنها تريد شكلاً آخر من الضمانات، بعدما بدلت تركيا من أولوياتها في الموضوع السوري، من دون أخذ رأيها والتنسيق معها؟

قد يقال إن تفكك المعارضة وتشرذمها هو الذي قاد أنقرة نحو خيار اتفاق موسكو إلى إنقاذ نفسها، وإنقاذ المعارضة أيضاً. لكن، من يضمن أن قيادات المعارضة، ومن يدعمها من بقية القوى والعواصم، ستقبل بخيار تركيا هذا؟ ستكون العلاقة بين أنقرة والائتلاف الوطني السوري والجيش السوري الحر أمام اختبار حقيقي، بسبب تفاهم موسكو إذا ما ثبت أنه تم من دون أخذ رأي هذه القوى؟ استطاعت تركيا من خلال عملية درع الفرات تعطيل المشروع الكردي على حدودها الجنوبية، لكن موسكو التي استقبلت القيادي الكردي، صالح مسلم، ورئيس حزب الشعوب الديمقراطية، صلاح الدين دميرطاش، أخيراً، لم تقل بعد إذا ما كانت تخلت عنهما إرضاء لتركيا التي تفهمت موقفها ومطالبها في حلب، وتجاهلت أولوية رحيل الأسد في مشروع الحل السياسي، وقد تدخل في أزمة مع حلفائها السوريين، بسبب ما قد يوصف تبدلاً جذرياً في سياسة تركيا السورية على حسابهم. يحمل تفاهم موسكو معه تساؤلاً أساسياً أيضاً بشأن ما يقال بشأن تغير الأولويات التركية في الملف السوري: مكافحة الإرهاب، وبعد ذلك النظام، أم أن الأولوية لمكافحة الجماعات الإرهابية التي أشار إليها الاتفاق، ثم الحل السياسي الذي يقوم على تسهيل المفاوضات بين النظام والمعارضة. وفي الحالتين، يتراجع موضوع رحيل النظام.

لماذا لم تدرج أنقرة هي أيضا الجهة التي تراها إرهابية في سورية، حزب الاتحاد الديمقراطي إلى جانب "داعش" وجبهة النصرة مثلا؟ ما هي الجوانب الخفية واللامعلنة في التفاهم الثلاثي، ومتى وكيف سيتم الإعلان عنها؟ أكراد سورية وحصتهم؟ إرضاء المعارضة السورية كيف سيكون؟ ما هي جائزة الترضية المقدمة لبشار الأسد؟ كيف ومتى ستسحب إيران المقاتلين والمليشيات المحسوبة عليها من الأراضي السورية؟ هل سقط مشروع "درع الفرات" أمام اتفاق موسكو الثلاثي الذي يتحدث عن الحل السياسي؟ من سيحارب "داعش" و"النصرة" في سورية بعد الآن؟ يشيد كتابٌ إسلاميون أتراك مقربون من "العدالة والتنمية" بوجود تركيا أمام طاولةٍ، تعمدت روسيا أن يجلس الأتراك والإيرانيون في الجانب الآخر منها. ولم تشأ أن تكون مثلثة الأضلاع، حتى لا يفهم أن الفرقاء يتساوون في القوة والنفوذ و التحاصص، وهم يدافعون عن اتفاقية موسكو بقولهم إن تركيا فعلت ما في مقدورها، وسط كل هذا التداخل والتشابك في الملفات والمواقف. قد يتفهم أصدقاء تركيا وشركاؤها وحلفاؤها مواقفها، لكن هذا لن يعني بالضرورة قبولهم ما يجري، وأنهم لن يفتشوا عن مصالحهم، بشكل مختلف وفي مكان آخر. 

إبّان ذروة التوتر مع روسيا، كنا نقول لهم: لماذا تهتم موسكو بهذا الملف إلى هذه الدرجة، تركيا هي التي لها حدود مشتركة مع روسيا؟ لم يتأخر الرد الروسي. ترسانة من السلاح والقطع الحربية تنقل إلى سورية، بحراً وجواً، إلى جانب مئات الخبراء العسكريين، للإشراف على سير المعارك وتوجيهها في شرق حلب مثلاً. كان المشهد، قبل أيام، يشير إلى ما هو مختلف ومتناقض تماماً هذه المرة، دولة تتحالف مع حلف شمال الأطلسي والغرب وأوروبا تأخذ مكانها أمام طاولة استراتيجية في الشرق الأفرو آسيوي، بمشاركة روسية وإيرانية مدعومة من الصين. مسألة ملفتة ومقلقة حتماً، لكن المقلق أكثر أن تتحول إلى وسيط وضامن حسب اتفاقية موسكو، بعدما كانت تعلن أنها أبرز الداعمين للمعارضة المطالبة برحيل الأسد. ألا يكفي هذا للحديث عن تغير في الموقف التركي حيال التعاطي مع المسألة السورية؟ 

يحمل البيان نقاطاً كثيرة، تخدم مطالب المعارضة السورية، ورحيل الأسد لم يذكر علناً، لكنه مدرج في إطار المادة المرتبطة بتنفيذ الاتفاقيات الدولية والأممية في هذا الخصوص. ومع ذلك، المتفق عليه والمعلن على الأقل هو خلاصة التفاهمات والتوازنات الثلاثية التي ستحتاج حتماً مصادقة الأطراف المحليين والشركاء الإقليميين والحلفاء الدوليين ودعمهم، فليس اتفاق موسكو نهاية الطريق والمسيرة، بل قد يكون بدايةً جديدةً لكثيرين أيضاً. 

كانت موسكو مثل المقامر الذي أراد أن يلعب الرهان على كل أحصنة السباق، المهم أن يقال إنه فاز في مكانٍ ما، لأنه راهن بأموال الآخرين، وربح بواسطة أموالهم أيضاً، من دون أن يدفع أي شيء من جيبه. 

قد تكون أنقرة في "درع الفرات" نجحت في لعب ما تبقى من أوراق بيدها، وحمت المعارضة السورية بشكل أو بآخر، لكن المساومة المحتملة مع موسكو وطهران قد تقلق أصدقاءها وحلفاءها في الملف السوري، خصوصا إذا ما فشلت في شرح ما جرى، وإقناعهم بصوابيته. هل وقعت أنقرة اتفاق موسكو من دون الرجوع إلى شركائها واستشارتهم في خطوة بالغة الأهمية من هذا النوع؟ قالت أنقرة بعض ما عندها. الكرة الآن في ملعب الآخرين، لنسمع ما سيقولونه.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس